خواطر الأمام الشعراوي | عندما يكون الحنث باليمين مباحا

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 224 من سورة البقرة حول  قوله تعالى: «وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ»  قائلا: لا تقل: إنى حلفت بالله على ألا أفعل ذلك الخير، لا افعله فالله يرضى لك أن تحنث وتكفر عن يمينك. «وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

إن الله عز وجل يبلغنا: أنا لا أريد أن تجعلوا الحلف بى عرضة، يعنى حاجزاً أو مانعاً عن فعل الخير. مثلاً لو طُلب منك أن تبر شخصاً أساء إليك فلا تقل: حلفت ألا أبر به لأنه لا يستحق، عندها تكون قد جعلت اليمين بالله مانعاً للبر. وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لك: لا، أنا متجاوز عن اليمين بي؛ إن حلفت ألا تبر أو لا تتقى أو لا تصل رحماً أو لا تصلح بين اثنيْن، أنا تسامحت فى اليمين.

والحديث يقول: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه) وهكذا يحمى الله سبحانه وتعالى فعل البر ويحمى التقوى ويحمى عمليات الإصلاح بين الناس، ولو كنت قد حلفت بالله ألا تفعلها، لماذا؟ لأنك عندما تحلف بالله ألا تفعل، وتجعل الله سبحانه وتعالى هو المانع، فقد ناقضت التشريع نفسه؛ لأن الله هو الآمر بالبر والإصلاح والتقوى، فلا تجعل يمين البشر مانعاً من تنفيذ منهج رب البشر. «وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس» إن حلفت على ترك واجب وجب أن ترجع فى اليمين.

اقرأ أيضًا| مستجلبة من أديان وثنية وتخالف العلم والشرع.. الأزهر للفتوى يحذر من «طقوس الجذب» و«الإسقاط النجمي»

احنث فيه وكفر عنه، والحكم نفسه يسرى على الذى يمنع ممتلكاته كالدابة أو الماكينة أو السيارة من انتفاع الناس بها بحجة أنه حلف ألا يعيرها لأحد، وذلك أمر يحدث كثيراً فى الأرياف.

ويختم الحق سبحانه وتعالى الآية بالقول الكريم: «والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ». إنه سبحانه سميع باليمين الذى حلفته، وعليم بنيتك إن كانت خيراً أو شراً فلا تتخذ اليمين حجة لأن تمنع البر والتقوى والإصلاح. والحق سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن اليمين يعطينا أصلاً من أصول اعتبار اليمين هل هو يمين حقا أو لغو، ومن رحمة الله أنه سبحانه وتعالى لم يأخذ إلا اليمين الذى عقد القلب عليه، أى الذى يقصد صاحبه ألا يحنث فيه، أما لغو اليمين فقد تجاوز الله عنه. مثلاً، الأيمان الدارجة على ألسنة الناس كقولهم: (والله لو لم تفعل كذا لفعلت معك كذا)، (والله سأزورك)، (والله ما كان قصدي) أو الحلف بناءً على الظن؛ كأن تحلف بقولك: (والله حدث هذا) وأنت غير متأكد من تمام حدوثه، لكن ليس فى مقصدك الكذب.

أما اليمين الغموس فهى الحلف والقسم الذى تعرف كذبه وتحلف بعكس ما تعرف، كأن تكون قد شاهدت واحداً يسرق أو يقتل وتحلف بالله أنه لم يسرق أو لم يقتل. من أجل ذلك كله يحسم الله سبحانه وتعالى هذه القضية بقوله فى الآية 225: «لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ»  وكان من المناسب أن تأتى هذه الآية كل ما سبق لأنه سبحانه أوضح لنا اليمين التى لا تقع وكأنه قال لنا: ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل رجوعكم فى مقابل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، فإذا كان قد قبل تراجعنا عن هذا اليمين فلأن له مقابلا فى فعل الخير.

وقوله الحق: «بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ»هو المعنى نفسه لقوله تعالى: «ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان» «المائدة: 89». أى الشيء المعقود فى النفس والذى رسخ داخل نفسك، لكن الشيء الذى يمر على اللسان فلا يؤاخذنا الله به. «لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فى أَيْمَانِكُمْ»والأيمان جمع يمين، واليمين: هو الحلف أو القسم، وسمى يميناً؛ لأنهم كانوا قديماً إذا تحالفوا ضرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه، وذلك لأن اليمين هو الجارحة الفاعلة. وبالمناسبة، فالجارحة الفاعلة إياك أن تظن أنها تفعل بالرياضة والتدريب، وإنما تفعل بالخلق أى كما خلقها الله، فهى مجبرة على الفعل حسب خلقتها.

ولذلك عندما تجد إنسانا ويده اليمنى لا تعمل ويزاول أعماله باليسرى فلا تحاول أن تجعله يستخدم اليمنى بدلا من اليسرى؛ لأن محاولتك عبث لن يجدي؛ لأن السبب فى أنه يستخدم اليسرى بدلا من اليمنى سبب خلقي، فالجهاز الخاص بالتحكم فى الحركة فى المخ هو الذى يقر هذا الأمر: إن كان مخلوقا فى النصف الأيمن من المخ كانت اليد اليمنى هى الفاعلة، وإن كان مخلوقا فى النصف الأيسر من المخ فاليد اليسرى هى التى تعمل. لذلك تجد الذى يكتب بيده اليسرى يتقن الكتابة بها أفضل من الذى يكتب باليمنى فى بعض الأحيان، ومن هنا نقول: إنه من الخطأ أن تحاول تغيير سلوك الذى يعمل بيده اليسرى بدلاً من اليمنى؛ لأن ذلك عبث لن يصل لنتيجة.

وأحيانا تجد الجهاز المتحكم فى حركة اليدين موجوداً فى منتصف ووسط المخ فيرسل حركات متوازنة لليد اليمنى واليد اليسرى معاً، ولذلك تجد شخصاً يكتب بيده اليمنى واليسرى معاً بالسرعة نفسها وبالإتقان نفسه، ويؤدى بها الأعمال بتلقائية عادية، ولله فى خلقه شئون، فهو يعطينا الدليل على أنه لا تحكمه قواعد، فهو قادر على أن يجعل اليد اليمنى تعمل، وقادر على أن يجعل اليد اليسرى تعمل، أو يجعلهما يعملان معاً بالقوة نفسها، أو يجعل كلتا اليدين غير قابلتين للعمل. إنها ليست عملية آلية خارجة عن إرادة الله، بل كل شيء خاضع لإرادته سبحانه.