فى حواره الأخير: هذه الرواية آخر ما أكتبه

بول أوستر
بول أوستر

ترجمة: رفيدة جمال ثابت

فى مطلع رواية بول أوستر الأخيرة «بومجارتنر» يقول البطل للمعالجة النفسية عقب فقدان زوجته فى حادث غرق مروع: «قد يحدث أى شيء لنا فى أى لحظة.

إننا نعرف ذلك، أنا وأنتِ والجميع، وإن كانوا يجهلون ذلك، فإنهم حتمًا لم يجيدوا الانتباه.»

نلتقى سى بومجارتنر بعد مرور عشر سنوات على وفاة آنا، وقد بلغ الآن سبعين عامًا، وتقاعد من منصبه كأستاذٍ للفلسفة فى جامعة برينستون. نجده يخوض سلسلة من المتاعب المنزلية غير المتوقعة والمتصاعدة تدريجيًا بصورة كوميدية قاتمة. فتارة يواجه صعوبة فى مهمة بسيطة كالاتصال بأخته، وتارة أخرى يُصاب بحروقٍ من المقلاة الساخنة، وتارة يتعثر على الدرج خلال زيارة غير ضرورية إلى قبو منزله.

يوضح أوستر، 76 عامًا، وهو يتحدث من منزله فى بروكلين، بنيويورك: «لطالما راودتنى الرغبة فى خوض تجربة كتابة القصة القصيرة، وقلما خضتها خلال مسيرتى الأدبية. لقد كتبت كتبًا ذات حجم متوسط، وكذلك كتابين ضخمين (4321) و(الفتى المحترق). ولم يكن ذلك الحجم مقصودًا. لذا، أردت كتابة عمل أقصر. وهنا تجلى لى رجل مسن يجلس فى منزله، ويراقب من النافذة طيورًا تستخرج الديدان من الأرض. كتبت عنه فى قصة قصيرة بعنوان «ديدان»، ولكنى لم أرغب فى التخلى عنه. كان ثمة المزيد لأكتبه، وهكذا بدأت من جديد، عالمًا أن وراء هذه الافتتاحية الكوميدية المشابهة لأفلام باستر كيتون يكمن شيء أكثر قتامة».


تسرى الكوميديا السوداء، إن لم تكن المفارقات المضحكة، بين ثنايا الرواية، بينما يستكشف أوستر الأعماق المظلمة لعلاقة بومجارتنر التى امتدت لعقدٍ من الزمن مع الفقد والحزن. يخوض سى علاقة سخيفة مع امرأة يتوهم أنها قد تكون بديلًا عن آنا. ويغوص فى يوميات آنا، ويروج قصائدها التى لم تُنشر من قبل، ويستعيد ذكرياتٍ من طفولته وحياته وتاريخ عائلته، والتى تتفق -بطريقة أوسترية- مع أحداث فى طفولة أوستر وحياته وتاريخ عائلته.

ولكن سى ما أانفك يعود إلى ذلك اليوم المشئوم فى (كيب كود) عندما «واجهت آنا الموجة الشرسة الوحشية التى هشمت ظهرها وأودت بحياتها، ومنذ تلك اللحظة المشئومة، منذ تلك اللحظة المشئومة...».



فى العامين الماضيين، ألمت ببول أوستر فاجعتان. الأولى مأساة عائلية مروعة، حظيت بتغطية واسعة فى وسائل الإعلام، إذ توفيت حفيدته الرضيعة بجرعة مخدرة بينما كانت فى رعاية ابنه. وفيما بعد، توفى أبو الطفلة، ابنه من زوجته الأولى الكاتبة ليديا ديفيس، بسبب جرعة زائدة من المخدرات. ثم فى مارس من هذا العام، كشفت زوجة أوستر، الكاتبة سيرى هوسفيت، عبر إنستجرام عن خضوعه للعلاج الكيميائى والمناعي، وعن أنهما يعيشان الآن فى «أرض السرطان».

وما كاد أوستر يوشك على الانتهاء من رواية «بومجارتنر» فى أواخر العام الماضي، حتى داهمته «حمى غامضة أخذت تنتابه فى فترة ما بعد الظهيرة». فى البداية، شخصه الأطباء بالتهاب رئوي، ثم سلك متاهة تشخيصات خاطئة متعلقة بكوفيد طويل الأمد، لينتهى به المطاف بتشخيص بالسرطان. ويعلق على ذلك: «ومنذ ذلك الحين، لم أتوقف عن تلقى العلاج، مما جعلنى عاجزًا تمامًا عن العمل.

لقد خضت معركة شرسة نجم عنها بعض المعجزات الطبية، لكنها جلبت أيضًا معاناة لا تُطاق.» أما بالنسبة إلى «أرض السرطان»، فيقول: إنه لا توجد خرائط ولا يعرف ما إذا كان جواز سفرك صالحًا للخروج. «هناك، مع ذلك، دليل يتواصل معك فى البداية. ويتحقق من هويتك، ثم يقول: ‹أنا من شرطة السرطان. يجب أن تتبعني. فماذا تفعل؟ تقول: ‹حسناً›. ليس لديك خيار حقيقى فى الأمر، فهو يهددك بالموت إذا رفضت الإذعان. قلت: ‹أفضل أن أعيش. خذنى إلى حيث تريد. ومنذ ذلك الحين وأنا أسير على هذا الطريق.»

ويروى أوستر أن اهتمامه بفكرة «اللحظة الفارقة» التى تغيّر مجرى الحياة انبثق من حادثة فى طفولته شكّلت حجر الأساس لرواية (4321). فى مخيم صيفي، قتلت صاعقة فتى كان يقف بجواره. «غدت هذه الحادثة تجربة مفصلية فى حياتي. فى سن الرابعة عشرة، كل شيء يحدث لك يترك داخلك بصمة عميقة، لأنك ما زلت فى طور التكوين والتشكيل. ولكن الوقوف بجانب صبى مات صعقًا غيّر نظرتى للعالم برمته.

حسبت أن الراحة الصغيرة للحياة البرجوازية التى عشت فى كنفها فى ضواحى نيوجيرسى بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تتمتع بنوع من الاستقرار. ثم أدركت أن هذا الاستقرار محض سراب. لقد رافقتنى تلك الفكرة طوال حياتي.

ورغم أنها فكرة مرعبة، فإنها مُحررة فى الوقت ذاته. تبقيك حذرًا دائمًا. وإذا استطعت استيعاب هذا الدرس، فإن من السهل عليك تحمل بعض الأمور فى العالم. قد يختلف الدافع للكتابة وسرد القصص من كاتبٍ لآخر. لكنى أظن أن هذا جوهر ما كنت أفعله طوال تلك السنوات العديدة.»

وفى مقابلة حديثة، وصف أوستر الهوس الأمريكى بـ «التصالح مع الفقد» بأنه «أغبى فكرة سمعتها على الإطلاق. حين يموت شخص عزيز لديك، يموت جزء من كيانك أيضًا. الأمر ليس هينًا ولن تتجاوزه أبدًا. قد تتعلم التعايش معه. ولكنك تعرف أن قطعة من روحك قد اُنتزعت.

وأردت استكشاف كل ذلك.» فى رواية «بومجارتنر»، يتأمل سى مليًا متلازمة ألم الأطراف الوهمية، ويصف نفسه بأنه «بقايا إنسان»، ومع ذلك فإن «الأطراف المفقودة لا تزال موجودة، ولا تزال تؤلم كثيرًا، لدرجة أنه يشعر أحيانًا كأن جسده على وشك الاشتعال والاحتراق بالكامل فى مكانه».

يقول أوستر: «كدت أطلق على الرواية اسم الأطراف الوهمية. إنها فكرة قوية جدًا. ذلك الترابط الذى يجمعنا بالآخرين، ومدى أهميتهم فى حياتنا. وأهمية الحب. قد يكون من الصعب علينا التحدث عنه بالعمق الذى يستحق. حب يدوم طويلاً، ومستمر مدى الحياة، مع كل التقلبات والمنعطفات التى قد يأخذها». ويرى أوستر أن «سيرى المبدعة» تلخص الأمر ببراعة حين تقول: «إن الناس يقعون فى خطأ التفكير فى الحب كآلة ومحاولة الحفاظ عليها فى حالتها الأصلية»... ويضيف أوستر: «عليك أن تفكر فى الحب كنبتة أو شجرة. بعض الأجزاء ستذبل، وقد تضطر لقطع أحد الفروع للمحافظة على نمو الكائن الحي. وإذا كنت مهووسًا فى الحفاظ عليه كما كان بالضبط، فسيذبل أمام عينيك يومًا ما. ولكى يستمر الحب، يجب أن يكون عضويًا. يجب أن تتطور أنت والحب معًا، بحيث يغدو كل شيء متشابكًا، برغم غرابة الأمر كله.» والحق أننا، ـيضيف أوستر:

لا نعرف شركاءنا تمام المعرفة. «ثمة ألغاز لن نتمكن من الإجابة عنها أبدًا. ولكنى أعتقد أن هذا ينطبق على أنفسنا أيضًا. ثمة جوانب كثيرة فى حياتى لم أتوصل إلى فهمها بعد. أفعالى على مر السنين. لماذا فعلت ذلك؟ لماذا تلك النزعة وذلك الدافع؟ يقضى الناس سنواتٍ فى التحليل ومحاولة استكشاف الإجابات.

لم أفعل ذلك قط، لذلك كنت أعتمد دائمًا على نفسى فى محاولة فهم الأمور، وصدقًا، لا أظن أننى أحرزت تقدمًا كبيرًا». 

رواية «بومجارتنر» هى ثانى إصدارات أوستر لهذا العام. ففى يناير، تناول قضية وطنية مؤلمة تخص الرقابة على الأسلحة النارية فى أمريكا. وكتب نصًا مصحوبًا بالصور الفوتوغرافية لصهره، سبنسر أوستراندر، بعنوان «أمة حمّام الدم». ويوثق الكتاب مواقع إطلاق النار الجماعى فى الولايات المتحدة. «استغرقت عامًا كاملاً لكتابة تلك الصفحات الثمانين. ارتأيت أن يكون النص مختصرًا ودقيقًا قدر الإمكان، وأن يحمل طابع الكتيبات السياسية القديمة. لا توجد دولة أخرى متقدمة فى العالم تضاهى أمريكا من حيث عدد حوادث إطلاق النار الجماعي. ولكن يبدو أن الأمريكيين، مع مرور الوقت، يقل اهتمامهم بالاستفادة من تجارب الدول الأخرى حول كيفية التصرف. إننا نعانى من غرور مفرط، وينتابنا شعور متضخم بالتفوق على باقى الأمم. حتى أغبى سلوكياتنا تُعتبر جيدة لمجرد أنها أمريكية».

وبرغم أن الكتاب قد لاقى استحسانًا، عبر أوستر عن إحباطه لأنه لم يُثر ضجة كبيرة أو يدفع نحو اتخاذ إجراء ملموس. «بالطبع إنه أمر محبط، فهو يكشف عن أحد أكبر عيوب ثقافتنا، كما أنه يجسد أنماط التفكير الخاطئة التى تقودنا منذ عقود. ولكن ربما سئم الناس من الموضوع برمته. لا يوجد أى نقاش يذكر حول ذلك الموضوع. ولا أحد يجرؤ على فتحه باستثناء قلة قليلة من السياسيين. ومن المؤكد أن هذا سيستمر حتى خلال فترة الانتخابات.»

وتدور أحداث رواية بومجارتنر بين عامى 2016 و2018، وترد إشارة إلى «أوبو المجنون فى البيت الأبيض». «لم أرغب فى خوض صراع مباشر مع ترامب، ولكنه كان مثل الشبح الذى يلقى بظلاله دومًا على الحياة الأمريكية». أما بالنسبة للانتخابات القادمة، فقد عبر أوستر عن تفهمه بشأن عدم تحمس الديمقراطيين فى البداية تجاه جو بايدن. «بالتأكيد، لم يكن هو أول اختيارى لعام 2020. ولكنه فاجأنى بصورة كبيرة. وأظن أنه شخصية استثنائية.

وأراه واحدًا من أفضل الرؤساء الذين أتذكرهم طوال حياتي. إنه يدرك أن الحكومة تضطلع بدور مهم فى حياتنا النفسية والأخلاقية والاقتصادية. والبرامج التى اقترحها تشكل قفزة نوعية مقارنة بما اعتدنا عليه خلال الأربعين أو الخمسين سنة الماضية».

وبينما يحاول الجناح اليمينى تصوير بايدن بأنه «رجل عجوز واهن تنقصه الكفاءة، فإن هذا يبعد كل البعد عن الحقيقة»، وفقًا لأوستر. «إنه قادر تمامًا ويعرف عن الحكومة أكثر من أى شخص آخر فى واشنطن. نعلم أنه ارتكب أخطاء، ولكنه يبدو الخيار الأنسب فى الوقت الراهن. لذا أتمنى أن يفوز فى العام المقبل لأنها ستكون انتخاباتٍ محتدمة يصعُب التكهن بنتائجها. وليس بوسعنا حتى التنبؤ برد فعل الجانب الآخر إن لم يحصلوا على الأصوات».

أما أوستر فإن اهتمامه ينصب حاليًا على العلاج واستعادة العافية. ولكنه سعيد للغاية بردود الفعل الأولية على «رواية بومجارتنر»... ويقول: «إننى أعمل بطريقة تقليدية للغاية.

أكتب رواياتى على آلة كاتبة، ثم تتولى مساعدتى بعد ذلك نقلها إلى الحاسوب لإرسالها إلى دار النشر. لقد رافقتنى لمدة 15 عاماً ونادرًا ما كانت تعلق على المخطوطات بأكثر من عبارات عابرة مثل ‹عمل جيد›، ولكنها هذه المرة حثتنى على ‹المضى قدمًا› لأنها لم تطق صبرًا على قراءة الفصل التالي. أما سيري، قارئتى الأولى منذ أكثر من 40 عامًا، فلم يكن لديها تعليقات بخلاف ‹استمر›. حتى وكيلى الذى يعمل معى منذ أربعين عامًا، ونادراً ما يعلق أيضًا، كان داعمًا للغاية.»

ويعترف أوستر بأنه لا يزال حائرًا بشأن المصدر الذى استلهم منه هذا الكتاب. «كان هناك ذلك الرجل الذى أخذ ينمو داخلي، ثم أصبح أكثر وضوحًا كلما تقدم الكتاب. وأمام ردود الفعل هذه لا أملك إلا أن ابتسم وأعرب عن شكري. أخشى أن صحتى المتدهورة قد تجعل هذه الرواية آخر ما أكتبه. وإن كانت هذه هى الخاتمة، فيكفينى أن أكون محاطًا بكل هذه المحبة والمودة بين أصدقائى الأعزاء».