تساؤلات

دقة قديمة

أحمد عباس
أحمد عباس

ثم اسمع يا سيدى ماذا يقولون عنا..
أولا الصورة الذهنية لدى هؤلاء أننا لا نزال نسير بالمنشة لنهش بها دبان وشنا، قمصاننا لها رقعة سوداء ناحية الكوع تحميها من التآكل والبقع، أما ياقاتنا البيضاء فبالقطع محمية بمنديل محلاوى كاروهات لئلا تصفر عرقًا ووقاية من التنسيل، أما المتفائل جدا فيعتقد بأن بعض الطرابيش تزين المكاتب، وبينما نتحدث الآن فواحد على الأقل وضع القلم على اذنه اليمنى ورشف الشفطة الأخيرة من استكانة الشاى الموضوعة ثم هبدها على المكتب فطاشت طرطشة التفل على ورق الدشت الأصفر المكوم على المكتب وأغرقته، ثم استأذن محمد أفندى من محسن أفندى رئيس قلم المحررين بعد أن شد الحمالة ورفع البنطلون المقلم ليصعد للمدير فى كامل هندامه يستعطفه ويسأله عن السلفة المطلوبة لزوم زواج البنت ذلك أن ابنته أخيرا انفك نحسها وجاءها العَدَل ولابد من تزويجها لئلا تقع الفأس فى الرأس وتصير جُرسة.


وهؤلاء الناس لا تزال تتعجب جدا اذا التقت صحفيا حقيقيا أو صاحب رأى وقلم ثم وبعد أن يعتاده ويعرفه الى حد يصارحه بحقيقة مفرطة.. والله ماعرفش انكم زينا كده!، بابتسامة صفراء واعتياد تام أتلقى الجملة وأسأله: معقول!، الحمد لله اننا عند حسن ظنك. وأصمت.
نعم هكذا يرانا هؤلاء.. أفندية ودقة قديمة.
تعرف!.. يعتقدون ذلك بينما نحن نطلق لقب الأفندية على هؤلاء وله فى بطوننا معانٍ أخرى كثيرة منها ما لا يمكن ذكره، لكن على أية حال حمدا لله وشكرا أننا مش زيكم والا كانت طامة ثم ليتنى هذا الأفندى يا «ولاد أفندية»!
بعض آخر يعتقد بأننا غرقى بين شرائح السلمون النرويجى الشهى وأطباق السيمون فيميه وشقفات لحم الاستيك المُشفى من عرق التريبيانكو والروستو الطازج، وأن أقدامنا اعتادت المشى على سجاد حرير عجمى وإذا كان السرير من غير ريش النعام فلا يأتينا النوم، يعنى واكلينها والعة واننا نأكل مال النبى ثم نقول هذه عجوة، واننا مثل المناشير -جمع منشار- طالعين واكلين ثم نازلين واكلين، مفتوحة أمامنا خزائن قارون وهارون ولنا خوارق سليمان وسحر هاروت وماروت، هؤلاء أيضًا اعانهم الله على أدمغتهم ونفوسهم، فلو أننا هكذا ما صرنا كذلك.. آخرون يرون بأننا أهم خلق الله على الأرض ومكالمة هاتفية واحدة فقط تستطيع أن تقيم الدنيا ولا تقعدها، وهذا لا يحدث الا بـ»الحب» فقط، لكن تمام كله يجوز فنحن جزء من كل يحدث ونحن فى المنتصف من أغلب ما يدور ويجرى ونحن لا نحرك الأشياء أو نملك كرامات ولا نحن بأصحاب مدد، نحن ناس.


ويرانا أولئك على أننا قوم نَسّايين يعنى ننسى كثيرا ونهمل احيانًا فى تذكر أشيائهم المهمة ونحن فى الحقيقة نفعلها بتمادٍ، لكن ماشى فهذا حق أن يعذر الجميع.. الجميع، دعنا من أولئك وهؤلاء الفكرة أكبر من ذلك.. المسألة كلها هنا عن ماذا تبحث انت وتنتظر وما المأمول مني؟ ثم وليكن.. عدنى بأنك تبحث عن شيء واحد على الأقل وأنا أعدك بأن أقدم لك أشياء بقدر استطاعتي، أما أن تبحث انت عن لا شىء تنتظر منى الكمال فالاتفاق مجحف، وهذه نظرتي.
عِدنى أن تتوقف أنت عن البحث عن الشكل وأنا أعاهدك أن أقدم لك مضمونا لك يليق بك وهذه قدرتي، دعنا من أننا دقة قديمة أو جديدة فلا تدع الشكل تحكمنا، هذه ظواهر الأمر ومظاهره، القضية أعمق بكثير، هى ببساطة فيما نقول ونحكى ونكتب ونفسر ونعيد ونزيد، فيما نسمع ونعرف -نحن الصحفيين- ونفهم ونحلل ونهضمه جيدًا ثم نعيد شرحه وتفسيره وتكراره بطرائقنا الفردية حتى يفهم من لا يفهم ويعى من يتكبر على التعلم.