رحلة فى ذاكرة التراث الفرعونى 2| د. آمال عثمان تكتب: شمس الحضارة تشرق من أكبر صرح ثقافى فى القرن الواحد والعشرين

آمال عثمان
آمال عثمان

بقيت الحضارة المصرية سنوات طويلة، ضحية ولع وهوس علماء الآثار، وطمع لصوص كنوز التاريخ، وظل الحفر والتنقيب عن الآثار مستمرا بهدف البحث عن كنوز أثرية تركها المصريون القدماء، لكن بعد تطور علم الآثار.

وفك رموز الكتابات المصرية القديمة لم تعُد الاكتشافات الأثرية غاية فى حد ذاتها، وإنما وسيلة تساعد علماء المصريات فى إزالة الغموض حول أول حضارة عرفتها البشرية، وكشف اللثام عن سجلات ووثائق ونصوص محفورة فوق المعابد والصروح، تدوّن إنجازات المصريين القدماء فى مختلف مجالات الحياة والعلوم والفن والفكر والعمارة والزراعة، وتسجل تطور حضارة تشرق قريباً من داخل أكبر صرح ثقافى فى القرن الواحد والعشرين.

بدأت الحفائر العلمية على يد علماء متخصصين، فى بداية النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وكان أول أثرى ينقب عن الآثار بطريقة علمية هو عالم المصريات الإنجليزى «فلندر بتري»، ثم الفرنسى «أوجست مارييت»، والألمانى «لبسيوس» و «لودفيج بورشارت»، ولأن المال هو عصب علم الآثار، لما يحتاجه التنقيب والتسجيل من مصروفاتٍ باهظة، كان علماء المصريات يعتمدون على المتاحف والجامعات فى تمويل اكتشافاتهم، وفى المقابل تحصل تلك الجهات على نصف الاكتشافات، من خلال لجنة يرأسها ممثل للحكومة المصرية من مصلحة الآثار، ومن أشهر الخدع التى تمت فى وضح النهار، واقعة خدعة خروج التمثال الفريد لرأس الملكة «نفرتيتي» من مصر!

وكانت البعثة الألمانية برئاسة «بورشارت» تعمل بمدينة «تل العمارنة»، وعثرت على تمثال للملكة «نفرتيتي»، يظهر براعة الفنان «تحتمس» فى إبداع هذه التحفة الفنية الفريدة، وأثناء عملية القسمة قام رئيس البعثة بتغطية التمثال بالطين ليخفى معالمه، فلم ينتبه ممثل مصلحة الآثار لأهميته وجماله الفريد، وخرج التمثال من مصر إلى برلين، وقد عُثر على وثيقة تسجل اجتماعًا بين «بورشارت»، ومدير تفتيش آثار مصر الوسطى «جوستاف لوفيفر» فى 20 يناير 1913 لمناقشة تقسيم الآثار المكتشفة، ووفقاً للأمين العام للشركة الشرقية الألمانية «صاحب الوثيقة»، والذى كان حاضراً الاجتماع، فإن «بورشارت» كان عاقداً العزم على أن يكون التمثال من نصيب ألمانيا، ويشتبه فى أن يكون أخفى القيمة الحقيقية للتمثال، رغم إنكاره لذلك.

اقرأ أيضا| الحقيقة وراء ادعاءات اختفاء السرير: متحف قصر محمد علي بالمنيل يوضح

ويذكر عالم الآثار د. ممدوح الدماطى فى كتابه «ملكات مصر» أن بورشارت أعد القسمة فى صندوقين منفصلين، وعرض على «لوفيفر» كشفاً بالقائمتين، مرفقاً بهما صورة ذات إضاءة سيئة لتمثال نفرتيتي، احتوت إحدى القائمتين على التمثال نفرتيتي، والذى ادعى المكتشف أنه مصنوع من الجبس، وليس من الحجر الجيرى الملون، والقائمة الأخرى تبدأ بلوحة ملونة لاخناتون، تصور الزوجين الملكيين اخناتون ونفرتيتى مع ثلاثة من بناتهم، وكان يعلم أنها من الآثار المُحببة إلى لوفيفر، وأكد له أن كل قائمة متكاملة ويفضل أن تحتفظ بمجموعتها، فوقع اختيار ممثل مصلحة الآثار على القائمة التى تحوى لوحة اخناتون، ونُقلت إلى المتحف المصري، وتم شحن تمثال نفرتيتى مباشرة إلى برلين، ووضع فى منزل «هنرى سيمون» تاجر الخيول اليهودى وممول الحفائر، وظل التمثال فى طى الكتمان بناء على طلب «بورشارت»، حتى عُرض للجمهور لأول مرة عام 1924 ونُقل بعدها لمتحف برلين الجديد.

وعندما أُغلق المتحف عام 1939 بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، حُفْظ التمثال فى قبو البنك الحكومى البروسي، ثم نُقل لأحد المواقع العسكرية الحصينة، وانتقل مرة أخرى إلى منجم ملح ألمانى بولاية تورنجن عام 1945، وبعد سقوطها أُرسل إلى فرع الآثار والفنون الجميلة التابع للجيش، ثم نُقل إلى البنك المركزى الألمانى فى فرانكفورت، ومنه إلى نقطة التجمع الأمريكية فى فسيبادن وعُرض للجمهور. 

عُرض تمثال نفرتيتى عام 1946 فى معرض بمتحف «فسيبادن»، ضمن التحف الفنية القادمة من برلين، وشاهده أكثر من 200 ألف زائر، ثم أعُيد إلى برلين الغربية، وعُرض بمتحف «داليم» فى يونيو 1956، لكن ألمانيا الشرقية أصرت على عودة التمثال إلى جزيرة المتاحف، مثلما كان معروضاً قبل الحرب. وفى أكتوبر عام 1967 نُقل ليُعرض بمتحف «فيشار لو تنبورج»، وبقى حتى عُرض عام 2005 بقاعة «كلتور فوروم»، وأخيراً عاد لموقعه الأصلى بمتحف برلين الجديد عند إعادة افتتاحه عام 2009، وبلغت قيمة التأمين على التمثال 300 مليون يورو، وأصبح رمزاً ثقافياً لبرلين ولمصر القديمة. 
وقد أثار التمثال جدلاً طويلاً بين مصر وألمانيا، منذ إزاحة الستار عنه لأول مرة، حيث طالب «بيير لاكو» مدير مصلحة الآثار -آنذاك- بعودة التمثال، معتبراً أن القسمة تمت بأسلوب غير أخلاقي، وهدد بحظر التنقيب الألمانى عن الآثار، ومنع «بورشارت» من العمل فى مصر، ولكن ألمانيا ألقت اللوم على إهمال المفتش، وأصرت على أن التمثال كان على رأس قائمة التقسيم والاتفاق كان نزيهاً.

زار «بيير لاكو» برلين عام 1929، والتقى مدير متحف برلين «هينريش شيفر»، واتفقا على مبادلة التمثال مقابل تمثالين آخرين، ووافقت وزارة الفنون والعلوم والتعليم، لكن الرأى العام رفض تنفيذ الاتفاق، وفى ذكرى جلوس الملك فؤاد الأول على العرش عام 1933، طالب «هیرمان جورينج»  وزير سلاح الجو النازي، بإعادة التمثال كمبادرة سياسية، وافق هتلر بدعم من «جوزيف جوبلز» وزير الدعاية النازي، وعندما اعترض الرأى العام زار «هتلر» المتحف ورأى التمثال، فوقع فى غرامه وأبلغ الحكومة المصرية أنه سيبنى متحفاً مصرياً جديداً لنفرتيتي!!

وحينما أصبح التمثال تحت سيطرة أمريكا بعد الحرب، طالبتها مصر بتسليم التمثال، فوافقت أول الأمر على إقامة معرض فى نيويورك لآثار «تل العمارنة»، يضم تمثال نفرتيتي، ثم يعود بعدها التمثال إلى القاهرة، لكنها رفضت بعد أن اطلعت على أوراق خروج التمثال، واعتبرت أن القسمة شرعية، ونصحت ببحث القضية مع السلطات الألمانية الجديدة، وفى عام 1976 طالب د. عبد القادر سليم رئيس هيئة الآثار بعودة التمثال مجدداً، إلا أن «هيلموت شميث» مستشار ألمانيا الغربية، اشتكى للرئيس أنور السادات فعزله، حرصاً على العلاقات المصرية - الألمانية! وفى عام 1989 زار الرئيس حسنى مبارك تمثال نفرتيتي، واعتبر أنها خير سفير لمصر فى برلين، ولكن عالم المصريات د. زاهى حواس أعلن أن التمثال خرج بطريقة غير شرعية وينبغى إعادته، وطالب ألمانيا بإثبات صحة حيازتها للتمثال من الناحية القانونية، وطالب اليونسكو بالتدخل لإعادة التمثال، وبمقاطعة عالمية لإقراض المتاحف الألمانية القطع الأثرية، تحت مسمى «الحرب العلمية»، وعاد وطالب ألمانيا فى 2012 بإعارة التمثال لمصر عند افتتاح المتحف المصرى الكبير، وانطلقت حملة فى هامبورج بعنوان «رحلات نفرتيتي»، أطلقتها جمعيات تعاون ثقافى، قامت بتوزيع بطاقات بريدية تحمل صورة نفرتيتى وعبارة «العودة إلى المرسل»، وكتبوا رسالة مفتوحة إلى وزير الثقافة الألمانى «بيرند نيومان»، تدعم إعارة التمثال لمصر، إلا أن ألمانيا تخشى من عدم عودته إلى ألمانيا.
وللحديث بقية..