آخر صفحة

حامد عز الدين يكتب: والله يعلم وأنتم لا تعلمون

حامد عز الدين
حامد عز الدين

كان ذلك قبل نحو اثني عشر عاما، عندما أصبت فجأة بعدم الإحساس بالجزء الأسفل من جسمي من دون أية مقدمات. ولجأت لأكبر خبراء أمراض الأعصاب والعمود الفقري في مصر، ووقف جميعهم في حال اندهاش ولم تنجح جراحتان على يد أشهر الخبراء المصريين في علاج الحالة. وأشار بعض أصدقائي من الأجهزة الطبية في النادي الأهلي إلى مستشفى «إيني» بمدينة هانوفر بألمانيا واسمه المعهد الدولي لعلم الأعصاب، وهو مستشفى رائد ومتخصص، يمكن فيه فحص المرضى بحثاً عن أمراض الجهاز العصبي وتلقي العلاج اللازم باستخدام معدات طبية فريدة من نوعها تسمح بعلاج أمراض الدماغ والحبل الشوكي والعمود الفقري والأعصاب المحيطية باستخدام تقنيات علاجية مبتكرة. 

وصلت إلى هناك برفقة ابني الأصغر الذي كان يظن أن هذه الرحلة ستشهد معجزة سحرية، وأنني سأعود من هناك أمشي على قدمي، حصلت على رعاية صحية مضاعفة بفضل توصيات متعددة للمستشفى من كبار الأطباء الألمان بناء على اتصالات هاتفية متكررة من أصدقائي في الأجهزة الطبية بالنادي الأهلي. أجريت لي أحدث الإشاعات والتحاليل لكل جزء من جسمي بحثا عن سبب ما جرى. وفي النهاية اتفق معي البروفيسور سام رئيس المعهد على موعد للاجتماع معه وكل طاقم الأطباء الذين شاركوا في الفحوص لتحديد الموقف النهائي. ودخلت إلى قاعة الاجتماع وكلي أمل في أن أستمع إلى خبر طيب. 

على جدران القاعة كانت هناك صور ضوئية لكافة الأشعة المتقدمة التي أجريت لي ونتائج تحليل درجات الإحساس وتحاليل الدم المتعددة. وبدأ البروفيسور سام بالخبر الطيب وهو أن الميكروب أو الفيروس الذي تسبب في الإصابة لم يعد موجودا، وأن صعوبة الحركة سببها ضعف كل العضلات التي لم تعد تستخدم على مدى أشهر. أما الخبر السيئ فهو أنه لم يعرف شيئا عن نوعية هذا الميكروب، على رغم أن الخطة الطبية كانت القضاء على الميكروب لو تم التعرف عليه، مع وعد بإجراء تحاليل متقدمة لعينات الدم التي تم سحبها لإجراء تحاليل أكثر دقة، وفي حال تم التعرف على الميكروب أو الفيروس أيا ما كان سيتم إرسال مضاد حيوي على عنواني بالقاهرة للحقن به دون الحاجة للعودة إلى هانوفر . 

كان حاضرو الاجتماع خمسة من كبار الأطباء بالمعهد ومعهم البروفيسور سام. وأشرت إلى ابني الأصغر، أدعوه إلى تقديم بعض الهدايا التي حملناها معنا إلى هناك من الأشكال الزجاجية لبعض الآثار المصرية، وبدا هاني ممتعضا تماما لأن أمله في العودة بعد الشفاء بمعجزة ألمانية قد تبخر. وفوجئت بنظرة حادة غاضبة من أحد الأطباء الذين يحملون كل الملامح الجسدية الألمانية، وفوجئت به يخاطبني بنبرة غضب مشيرا إلى أنهم فشلوا في تحقيق المطلوب فهل هي هدايا للسخرية من فشلهم أم ماذا؟. 

قلت له: أنا أعبر لكم عن شكري على ما بذلتموه من جهد في محاولة البحث عن علاج لحالتي وهو ما سعيت إليه تحديدا.. وقلت: جئتكم باحثا عن علاج لا شفاء.. فالعلاج هو أقصى ما تستطيعون الوصول إليه، أما الشفاء فأرجوه من الله سبحانه وتعالى. فالعلاج هو إرادة المريض والطبيب التي يعتمد فيها على الأسباب الأرضية، أما الشفاء فهو إنفاذ هذه الإرادة البشرية.

وأوضحت أن الشافي هو اسم من أسماء المولى سبحانه، لكن ليس بين أسماء الله «المعالج» فهذه صفة للمخلوق أما الخالق سبحانه فصفته هي الشافي «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون». 

عادت نظرة الغضب تملأ ملامح البروفيسور شولتس وهو يقول «عجيب أمركم يا أبناء الشرق، ترجعون كل شيء إلى الغيبيات». ووجه الحديث لي: ألم تنظر إلى هذه البيانات المعلقة على الجدران الخاصة بحالتك.. هذه هي الأعراض المادية «العلمية» التي نعتمد عليها في تقييم كل حالة.

وبهدوء شديد سألته: أليست هي أشياء مادية علمية..؟
 قال: بلى .

فعدت أساله: وما رأيك في خلق الكون البديع، هل يمكن ألا يكون مبنيا على قواعد علمية؟ 
.. قال وبسرعة بالطبع انتظام الكون مبني على أسس علمية بحتة.

فسألت: وهل العلم خالق أم مخلوق؟ 
.. قال: بالتأكيد مخلوق.. 

قلت: إذا كان العلم مخلوقا فمن يكون خالقه؟.. 
فصمت طويلا.. ما دعاني إلى الاستطراد: أليس لكل مخلوق خالق، أليس الله هو الخالق من عدم؟.. وبالمنطق لا يمكن القول بأن المخلوق خلق ذاته.. وإلا كان الأمر سفسطة فارغة؟.

أنتم في عملكم أيها البروفيسور وفي حياتكم تعتمدون على كل ما خلق الله لأنكم وما تستخدمون سبق وجودكم عدم، وكل ما سبقه عدم هو جائز أو محتمل الوجود.. وتعريفنا لاسم الله «بكل اللغات»: واجب الوجود بذاته المعبود لصفاته. وهذا فقط الذي يستقيم مع المنطق والعلم بوصفه هو الأول والآخر وبوصف حقيقة أن الصانع سابق في الوجود على المصنوع لاستحالة وجودهما معا في وقت واحد. 

سكت البروفيسور طويلا ولم ينه لحظة الصمت سوى ابتسامة البروفيسور سام الذي لم أكن قد علمت حتى حينها أن اسمه سامي حسيـن. ونستكمل قصتي مع شولتس في الأسبوع المقبل بمشيئة الله إن كان في العمر بقية .