حديث الأسبوع

اتسع الخرق على الراقع

عبد الله البقالى
عبد الله البقالى

عبد الله البقالى

لم تكن الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام فى حاجة إلى تقرير يرصد طبيعة أدائها المهنى خلال الفترة الأخيرة، التى تزامنت مع رزمة من الأحداث الكبرى التى هزت أركان عرش العالم، للتأكد من تجردها وانسلاخها عن أبسط الشروط المهنية والأخلاقية المتعلقة بالرسالة الإعلامية النبيلة، بل يمكن المجازفة بالقول باستحالة رصد جميع الخروقات والانتهاكات المهنية والأخلاقية التى اقترفتها مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام الفرنسية، ومن خلالها كثير من وسائل الإعلام الغربية بصفة عامة، التى بدت أنها دخلت بيت الطاعة عن طواعية، وافتقدت قراراتها السيادية، وتحولت فى كثير من المرات إلى وسيلة طيّعة من وسائل تنفيذ السياسات الخارجية لدولها.


لذلك كله وغيره كثير، فإنه رغم الإقرار بالأهمية الكبيرة التى اكتساها التقرير الذى أصدره المجلس الفرنسى للوسائط المتعددة، والذى رصد من خلاله أبرز محطات هذه الاختلالات والانتهاكات والخروقات التى اقترفتها كثير من وسائل الإعلام الفرنسية بالخصوص، فإن ذلك لا يعفى من القول بأن الخرق اتسع على الراقع، وأضحى من العسير إنجاز رصد كامل ونهائى وموضوعى لما اقترفته أيادى كثير من الصحفيين الفرنسيين، ومن خلالهم حشد من الصحفيين فى العديد من الدول الغربية، والذين نصّبوا أنفسهم لعقود طويلة من الزمان حراسا لمبادئ وأخلاقيات الصحافة والإعلام، وعبرها حماة للديموقراطية ودولة الحق والقانون ولحقوق الإنسان بمفهومها الكوني، إلى أن أجبرتهم الأحداث الكبيرة والقوية التى استجدت فى العالم، هناك فى أوكرانيا، وهنا فى غزة، على أن يخرجوا للرأى العام عراة وحفاة.


وهكذا، لم يعد غريبا مثلا ملاحظة معاداة كثير من وسائل الإعلام الفرنسية لكل ما يرتبط بالدين الإسلامي، الذى أضحى مدانا من حيث المبدأ. وفى هذا الصدد، لاحظ تقرير المجلس الفرنسى للوسائط المتعددة ما وصفه بـ«الانحراف الخطير الذى تشهده المعالجة الإعلامية فى فرنسا على خلفية المعالجة المتحزبة والموجهة للمعلومات، والتى تهدف إلى جعل الإسلام والمسلمين مصدر قلق كبير للمواطنين من خلال بث الخوف والتحريض على الكراهية». وزاد التقرير فى التفاصيل بالقول (إنه أصبح واضحا فى وسائل الإعلام الفرنسية أن التعامل مع خبر يحمل فيه المشتبه به اسما عربيا، مسلما، يكون مغايرا تماما لمشتبه به يحمل اسما غير مسلم)، موضحا أنه  فى الحالة الأولى تنطلق الآلة الإعلامية لتبحث عن مدخل لربط ذلك الخبر بالإسلام، حتى وإن لم تكن هناك علاقة بالأمر. واستدلّ التقرير بحادث الهجوم بالسكين الذى وقع فى أستراليا قبل أيام قليلة من اليوم، وأدى إلى سقوط ست ضحايا وإصابات ضمنها حالة طفل، إذ سارعت قناة (سى نيوز) الفرنسية التى استضافت متخصصين على الهواء مباشرة والذين ركزوا على الأصول الشرقية للمشتبه به فى هذا الهجوم. كما ذكّر التقرير بالتحقيق الذى أجرته صحيفة (ميديا بارت) الذى فصّل فى هذا الانحراف الإعلامي، وكشف الصحفى المحقق عن معلومات خطيرة من قبيل أن رئيس تحرير قناة (سى نيوز) الفرنسية كان يوجه إلى فريقه التحريرى عبر تطبيق (الواتساب) مجموعة من التعليمات المحددة لطريقة معالجة خبر ما، من قبيل أنه أمرهم فى إحدى المرات بعدم تغطية قضية (شوليت) «إن لم تكن هناك إشارة إلى القرآن».
وحتى حينما تم تكوين لجنة تحقيق بطلب من نواب فرنسيين، على أن تقدم نتائج عملها فى نهاية الأسبوع الأول من شهر يونيو، ورغم أن اللجنة عقدت فعلا جلسات استماع طويلة ومعمقة مع بعض من مسئولى القنوات التلفزية الفرنسية، إلا أنها اختفت بصفة مفاجئة وتعطلت أشغالها، وبات من المستبعد أن تنهيها فى الموعد المحدد، والسبب فيما حدث، أن مراكز القرار السياسى الفرنسية وغير الفرنسية تدخلت بقوة للإبقاء على خضوع وسائل الإعلام داخل بيت الطاعة. وتكفى الإشارة إلى قوة تدخل مراكز القرار السياسى والمالى فى الأداء المهني، بعدما اقتيد رئيس لجنة التحقيق نفسه كضيف إلى إحدى القنوات التلفزية الفرنسية (سى 8) ليطعن فى أعمال اللجنة ويكشف عن أسرارها.
طبعا، لم يكن فى يوم من الأيام، الإعلام الفرنسى قدوة فى الأداء المهنى والأخلاقي، ولا مرجعا فى الممارسة المهنية السليمة والنظيفة والمستقلة، وتكفى الإشارة فى هذا الصدد، إلى أن التاريخ الاستعمارى لكثير من وسائل الإعلام الفرنسية لا يختلف فى شيء عن التاريخ الاستعمارى للدولة الفرنسية، وأن وسائل الإعلام هذه سخرت عن طواعية لبسط الهيمنة الاستعمارية ضد العديد من شعوب العالم المستضعفة، وكانت من أدوات المد الاستعماري، لذلك الاستغراب اليوم، ليس فيما تقترفه كثير من وسائل الإعلام الفرنسية من انتهاكات وخروقات خطيرة على المستويات المهنية والأخلاقية، ولكن الاستغراب يكمن فى القدرة الفائقة لوسائل الإعلام هذه على امتلاك ما يكفى من مخزون ومنسوب الوقاحة مما يضمن لها مواصلة ما تقوم به من جرائم حقيقية ضد المجتمع وضد المهنة النبيلة دون أن يحمر وجه واحد من وجوه أشباه الصحفيين المتورطين فيما يجرى ويحدث.