قلب وقلم

طـــوبــة..!

عبد الهادى عباس
عبد الهادى عباس

عبد الهادى عباس

قلوب بعض الناس وتصرفاتهم تبدو غائمة، ضبابية، تُنذر بالمطر الزائف، كأنها فى حالة كسوف نفسى دائم؛ فلا هى تنقشع فيظهر معدنها الطيب، ولا هى تبقى سوداء فنعتادها كما هى؛ ولكنه الأمل فى الانبلاج والإشراق الذى يحدونا إلى رحاب المستقبل الطيب.


من المفردات الملازمة للشعب المصرى، والتى أنبتتها بيئتنا الزراعية كلمة «طوبة» بمدلولاتها المتراكمة الثلجية؛ فالطوبة عمياء، والطوبة قد تقع فى المعطوبة، كما يُقال؛ ومثلما يُوجد نموذج الشجرة التى يرميها الحمقى بالطوب فترميهم بثمرها، هناك المدير الطوبة، المتكلس، المتحجر، كأنه صخرة فى مجرى نهر الحياة، فلا عمل له سوى الإعاقة والتعويق، الذى يقف حجر عثرة أمام أى أفكار جديدة تحمل طابعًا مغايرًا لما اعتاده حتى أصبح عبدًا له، فلا يقبل بغير الاقتراحات الصندوقية التى تقتات عليها «عثة» التكرار البالى، ولا يفتح أذنيه للآراء الجادة، فيصبح وأمثاله «طوبة» حقيقية فى تاريخ الوطن.
والطوبة الأخرى التى تحتاج إلى وقفة جادة وحقيقية، وإلا ستدمر قطاعًا كبيرًا ومؤسسة عريقة تبذل الدولة كل جهدها فى صيانتها وتطويرها بعد عقود من الإهمال والتراخى، حتى إذا بدأنا نرى انفراجة كبيرة فيها وقفت «الطوبة» تدمر ما نبنيه وتشوه ما نقوم بتجميله، وهى مؤسسة (س. ح. م)، أو سكك حديد مصر، تلك المنظومة الفريدة التى اهتمت بها الدولة وأنفقت عليها ملايين الجنيهات خلال السنوات السابقة، ويجتهد الوزير كامل، لتحويلها إلى منظومة متكاملة منتجة، فالرجل لا يعرف غير النجاح والعطاء، مهما كانت المعوقات قاسية؛ لكن الطوب يقف بالمرصاد، طوب العقول الخاوية والجهل المتمكن أشد خطرا من طوب الحجارة والطين.


منذ سنوات بعيدة لم أكن قد واتتنى الفرصة لأمتطى صهوة قطار، ربما لأن المسافة إلى قريتى ليست بعيدة، وربما لأن الطرق البرية أصبحت أفضل وأكثر سيولة بعد عشرات المحاور والكبارى، ومشروعات الإصلاح والتأهيل التى وفرت الوقت والجهد؛ ولكن تحت إصرار أسرتى أصبحت راكبًا دائمًا للقطار، حيث فوجئت أن هناك عدة قطارات حديثة قد دخلت الخدمة، بمواعيد جديدة وأسعار مناسبة تمامًا، فاخترت القطار الجديد المكيف من القاهرة إلى شبين الكوم؛ والحقيقة أنه تحفة متحركة: انتظام فى المواعيد، ونظافة داخلية، وحمام بداخله كل أدوات النظافة، والتزام بأرقام الكراسي، وتكييف هادئ، ورائحة نقية، ومفتشون بأخلاق عالية وابتسامة دائمة، وغيرها من المميزات التى فتحت نفسى لأكون راكبًا دائمًا لهذه الوسيلة الرائقة؛ غير أننى رأيت تهشمات فى العديد من النوافذ، وعلمت أن القطار يُصبح منصة للتنشين «بالطوب» من ضعاف العقول من شباب وصبيان القرى التى يمر عليها، رغم أن «الوزير» قد بحث هذا الأمر مرارا مع عُمد القرى ومسئولى المراكز التى تمر عليها القطارات؛ ولكن لا حياة لمن تنادى!


فى هذه الفترات الصعبة التى يمر بها الوطن لا يُمكن أبدًا التهاون مع أى حالات إفساد لأى مرفق تنفق عليه الدولة من «قوت» هذا الشعب لتدمره شرذمة من «العيال» الذين يحملون «الطوب» فى عقولهم قبل أن تحمله أيديهم؛ ولا بد أن تكون هناك كاميرات مراقبة وعقوبات رادعة لكل من يشوه ما تبنيه مصر؛ كما أن إعادة حملات التوعية أصبحت ضرورة للوقاية من مثل هذه الحالات السفيهة؛ علينا أن نجتهد لتحويل الطوبة الشريرة إلى طوبة مقدسة فوق طوبة مقدسة أخرى، تبنى الوطن وتُعلى البناء، ونقذفها مُحرقة فى وجه أعدائه، أينما كانوا.