فنجان قهوة

انتصارات لذيذة 

يسرى الفخرانى
يسرى الفخرانى

كانت من ألمع انتصارات أمى يوم ازاحة الغطاء المحكم بشدة عن صفيحة السردين المملح وقد أتى أُكله، لقد قضت فى مطبخها نصف يوم لكى تَرّص السمك الصغير الطازج وترش طبقات الملح باحتراف قبل أن تُغلق الغطاء بخبرة سنين لكى يستوى على مهل ويُفتح فى ليلة شم النسيم.

انتصارها ينضم كما أغلب أمهات هذا الزمن الطيب إلى انتصارات صغيرة كثيرة مثل طبخ مربى البلح الأَمّهَات أو اللارنج أو الفراولة، ثم صبها فى برطمانات زجاج وإحكامها وكتابة اسم المربى وتاريخ صنعها على ورقة مُلصقة للعلم ثم ترتيبها فى رف الثلاجة .

نفسه الانتصار حين تنتهى من تسييح كور الزبدة التى جاءت بها فلاحة عَفية من البلد فى صباح مبكر مع البيض البلدى والجبن القريش . ذروة الانتصار حين ترى أمامها صفائح السمن المرمل قد اكتملت !

كنت أراها أكثر سعادة فى مواسم توافر الليمون والفلفل الأخضر والزيتون، فتعمل بهمة على تحويل الثمار إلى مخلل صُنع بلذة وتأن كأنها تصنع لوحة من الألوان المتداخلة بموهبة فنان، ولم تكن كل برطمانات المخلل أو المربى أو السمن البلدى لها، كانت توزع بعضه كهدايا طيبة من صنع يديها، كنت أرى هذه السعادة الحقيقية المتبادلة بين أمى وجاراتها.

كان المطبخ هو ساحة الانتصارات اللذيذة، من صوانى كيكة الذرة إلى كاسات المهلبية والأرز باللبن.

تذكرت كل هذه الصور اللطيفة على القلب كأنها كانت أمس، بينما كنت أقرأ بحثا عميقا عن أهمية الاستغراق فى صناعة منتجات طعام منزلية أو أكل بيت لكى يحدث اتزان نفسى للمرأة مهما كانت مهامها أو مشاغلها !

وقت المطبخ والطبخ واعداد منتجات بيت تدوم تحديدا مثل طبخ المربات وتمليح الثمار، هى فترة استرخاء ذهنى مهمة، وفترة انتصار صغير عظيم تُلهمها سعادة وأمانًا .

الوقت لم يعد هو الوقت، تغير الزمن وثمة العصر السرعة، وكل هذه الانتصارات أصبحت متوافرة على أرفف السوبر ماركت بأسماء وأنواع مختلفة، فى الظاهر هو توفير لوقت وجهد سيدة البيت والعمل على راحتها، وهو أمر حقيقي، وفى السر هو سرق منها انتصاراتها الصغيرة ومتعتها وعزفها الماهر لصناعة برطمانات السعادة التى تمنحها ساعات من التوازن النفسى!

ما أتمنى أن ألفت النظر إليه كعلاج نفسى مُجرب أن تعود كل سيدة إلى مطبخها لبعض الوقت لكى تُنتج المربى والمخلل والسردين وهى تسمع أغانى أم كلثوم برواقة وتشرب الشاى فى براد على مهل وتستمتع برائحة الكيك وهى تتسرب بعبقرية من الفرن.

الحياة الجاهزة حياة جافة مهما بدا لها وجه لطيف من اختصار الوقت والجهد، فهى فى الحقيقة تقدم نوعًا من الحياة منزوع البهجة والتفاصيل.