يوميات الأخبار

مكالمة «نص الليل» مع الشهيد أبو عمار

اسامة عجاج
اسامة عجاج

أكثر من عشرين عاما على ما جري، والأحداث كما هي، والسياسات لم تتغير، انتقل ميدان المواجهة الرئيسى، من الضفة الغربية الى قطاع غزة، ومن فتح إلى جماعات المقاومة ومعها السلطة.

فى مسيرة النضال الفلسطينى المستمر منذ أكثر من ٧٥ عاما، هناك العديد من الأحداث الفارقة، والمحطات المفصلية، ولكنى سأتوقف عند اثنين فقط، وهما الانتفاضة الفلسطينية الثانية فى سبتمبر ٢٠٠٠، والتى استمرت خمسة أعوام، والثانيه السابع من أكتوبر الماضي، مع بدء طوفان عمليات المقاومة النوعية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلى فى غزة، وملفها مازال مفتوحا، التشابه بينهما كبير، حتى فى العنوان، فالأقصى مشترك بينهما، فى الأولى تصدرت حركة فتح الفعل النضالي، مع دور موازٍ لفصائل المقاومة والتى استكملت المهمة فى الثانية، تغيرت الأسماء من شارون فى الانتفاضة، إلى نتيناهو فى الطوفان، ولكن السياسات واحدة، لم تتبدل أو تتغير، فى الأولى كان الهدف إزاحة أبو عمار من المشهد، كرمز للقضية الفلسطينية من خلال حصاره فى مقره بالمقاطعة فى مدينة رام الله لثلاث سنوات كاملة، الثانية هدفها إنهاء القضية الفلسطينية نفسها، تحت شعار إصلاح السلطة الفلسطينية، وهى كلمة حق يراد بها باطل، فقد تعرضت السلطة ومازالت، لهجوم غير مسبوق ورفض أى دور مستقبلى لها، وبالتوازى إنهاء أى مظاهر للمقاومة وتشكيل كيان على مقاس أهداف تل أبيب،
والغريب هو استخدام نفس الأساليب وذات المفردات، فبعد الانتفاضة الثانية عاشت إسرائيل حالة سعار، يومها اعتبر آريل شارون رئيس الوزراء فى ذلك الوقت عرفات عدوا يجب عزله، ووصفه بأنه يرأس ائتلافًا إرهابيا، وأعلن ندمه الى الالتزام الذى قدمه لواشنطن بعدم مسه شخصيا، وقال (لم أعد قادرا على الوفاء بهذ الالتزام، سأتوجه للأمريكيين وساطلب منهم طرد عرفات)، وزير الأمن الداخلى عوزى لانداور قال (إسرائيل تواجه (وحوش آدمية)، ويجب محاربتهم والقضاء على السلطة ودخول المناطق وعدم الخروج منها، ولم تتغير التصريحات خلال الاشهر الست الماضيه، فقط من أدلى بها، نتنياهو صرح بجهوزية الجيش، لمهاجمة قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية، وهاجم الرئيس محمود عباس، لعدم إدانته عملية طوفان الأقصى وقال إن السلطة تدعم الإرهاب ولا تقاومه، وانتقد اتفاقيات أوسلو لأنها أعادت الفلسطينيين إلى قلب دولة إسرائيل، وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف جالانت يكرر نفس تصريح وزير الأمن الداخلى فى زمن الانتفاضة، ويقول (نحن نقاتل (حيوانات بشرية) وعليه فقد امرت بحصار كامل لقطاع غزة، لن تكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا وقود وكل شيء مغلق)، ايتمار بن غفير وزير الأمن القومى يحرض ضد الشعب والسلطة الفلسطينية، ويتهمها بمكافأة عائلات (الإرهابيين القتلة)، ويضيف (لا يوجد شىء اسمه شعب فلسطينى.

حصار أبو عمار

مازالت ذاكرتى على حالها، تجاه ما جرى فى سبتمبر ٢٠٠٠، مع انطلاقة شرارة الانتفاضة الثانية، والتى اندلعت بعد حالة الإحباط والتشاؤم التى سادت الأجواء الفلسطينية، نتيجة مرور سبع سنوات على التوقيع على اتفاقية أوسلو، التى خلقت أملا كاذبا، عن قيام دولة فلسطينية، وإنهاء احتلال طالت سنواته، ومعاناة شعب تعرض لظلم تاريخي، فلم تلتزم تل أبيب باى من بنودها، واستمرت فى مخططها لتوسيع الاستيطان، والتضييق على الشعب الفلسطينى وحصاره، وتصاعدت الأحداث لتصل إلى نهاية مارس ٢٠٠٢ باستهداف أبو عمار شخصيا، بعد عملية استشهادية، قام بها عبدالباسط عودة وهو أحد أعضاء حركة حماس، والذى فجر نفسه فى ساحة فندق إسرائيلى فى مدينة نتانيا، المقامة على أراضى طولكرم فى ٢٧ مارس خلال عيد الفصح اليهودي، قتل فيها ٣٠ إسرائيليا وأصيب ١٤٠، يومها حمل المجلس الأمنى عرفات مسئولية ما يحدث، واعتبار حركة فتح معادية، مسموح بقتل واعتقال أعضائها، وعزل الرئيس فى مكتبه، والقيام بعملية واسعة النطاق تبدأ من رام الله وكل الضفة، وكذلك قطاع غزة، وقد كشف وزير الدفاع الإسرائيلى فى ذلك الوقت شاؤول موفاز، وجود خطة تم التوافق عليها مع رئيس الوزراء الاسرائيلى شارون، فى إطار عملية اجتياح الضفة، والتى أطلق عليها السور الواقي، للقبض على عرفات.

اختراق الحصار

ويكشف أرشيفى الصحفى الخاص عن تقرير تم نشره فى عدد ٣ ابريل ٢٠٠٢ من مجلة آخر ساعة، محاولاتى للاتصال بعرفات المحاصر، وبعد جهد جهيد ومحاولات مضنية، رد أحد العاملين فى مكتبه، سألته عن أحوال الرئيس وطلبت الحديث مع الصديق نبيل أبو ردينة، فأكد لى أن الأحوال سيئة والوضع مأساوي، والقتال من مكتب إلى مكتب والحصار كامل على الرئيس، وبعض معاونيه وحرسه الشخصي، وتمنى على إغلاق الهاتف للحفاظ على ما بقى من شحن فى هاتفه المحمول، بعد قطع الكهرباء، واستمرت المحاولات ومع الإلحاح، جاءنى صوت أبو عمار قائلًا بصوت واثق (قلقى على شعبى أكثر من خوفى على حياتي، فقد سبق أن عشت نفس الظروف فى حصار بيروت ١٩٨٢، والأهم ما يعانيه الشعب الفلسطيني، آمل أن أسقط شهيدا على هذه الأرض المقدسة، وإذا استشهدت، فيوما ما هناك طفل سيرفع علم فلسطين على المساجد والكنائس).

لم يتم المس بشخص عرفات لاعتبارات عديدة وضغوط دولية، وتم فك الحصار عنه باتفاق يقضى ببعض الإجراءات، وبعدها بدات سياسة تغيير الأدوات مع الإبقاء على الأهداف، حيث رفعت واشنطن بايعاز من تل ابيب، شعار المطالبة بتغيير وإصلاح السلطة، بينما الهدف الحقيقى هو البحث عن بديل لعرفات شخصيا، والذى لجأ الى المناورة، وكسب مزيد من الوقت، بالإعلان عن وزارة تحت رئاسته، تحفظت عليها واشنطن وتل أبيب، ووقف بوش الابن وبجواره شارون فى البيت الابيض، ليقول (لا أحد يثق بالحكومة الفلسطينية الجديدة)، فاستمرت فى حصاره واعتبرته أنه غير موثوق به، لا يتمتع بحصانة ولا يمكن الدخول فى مفاوضات، واستمرت الضغوط والتى اثمرت عن تعيين محمود عباس رئيسا للوزراء فى نهاية أبريل ٢٠٠٣، ولم تنجح التجربة فقدم ابو مازن استقالته بعد اربعة اشهر فقط، واستمر الحصار الاسرائيلى ولم يتم السماح لعرفات بالخروج من مكتبه، سوى للسفر الى العاصمة باريس للعلاج فى المستشفى العسكري، حتى تم الاعلان عن وفاته فى نوفمبر ٢٠٠٤ .

ما بعد الطوفان

ولعل أحداث ما بعد طوفان الأقصى تمثل محاولة استنساخ للتاريخ، وتجسد رؤية تل أبيب وبدعم من واشنطن فى تحقيق ما عجزت عنه فى ميدان المواجهة العسكرية، بعد كل ماحدث خلال السته اشهر الماضية، فمنذ الايام الاولى وفى ظل بحور الدم، التى شهده القطاع ،وقبل ان تتوقف المواجهات والمعارك، بدا الحديث عن اليوم التالى لما بعد العدوان، وتم استعمال العنوان الاثير لدى واشنطن، هو اصلاح السلطة الفلسطينية، وطرحت فكرة تشكيل حكومة تكنوقراط، مع توسيع صلاحيات رئيس الوزراء بالتراضي، مع رئيس السلطة والذى سيظل فى منصبه بشكل رمزي، ضمن صفقة متكاملة أعدها رئيس دائرة الشرق الاوسط فى مجلس الأمن القومى الامريكى بريت ماكغورك وتبنتها الادارة، وظل نتنياهو صامدا فى مواجهة الضغوط، ليرضخ فى نهاية الأمر ليعلن رؤية مبتسره لمرحلة ما بعد الحرب، تتضمن استمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الضفة وغزة، وإلى وجود عسكرى اسرائيلى غير محدد المدة، مع استمرار الحرب حتى يتم القضاء على حماس، كما نصت على الآتى (الإدارة المدنية والمسئولية عن النظام العام فى القطاع، سترتكز على مسئولين محليين ذوى خبرة إدارية، ومنع السلطة من الشراكة، والاعتماد على ادارة مدنية مشكلة من قادة عشائر، والتى قد تختلف مع المقاومة، ولكنها أبدا لن تتعاون مع قوة الاحتلال، وهو ما ظهر بالفعل من رفض قادتها للتعاون مع الاحتلال، فتم استهداف ابنائها بالقتل، عندما تقدمت لتنظيم عمليات توزيع المساعدات وحراسة القوافل الخاصة بها.

وزارة تكنوقراط

ومثل الإعلان المفاجئ من السلطة الفلسطينية عن تشكيل وزارة تكنوقراط، توافقا غريبا، حتى فى التاريخ ،بين تكليف محمود عباس كاول رئيس وزراء لفلسطين فى مارس ٢٠٠٢، وبين تكليفه وهو رئيس للسلطة لمحمد مصطفى رئيسا للحكومة الجديدة، والتى جاءت فى استجابة مبكرة لطلبات دولية وإقليمية، وكجزء من إعداد المسرح لكى تلعب السلطة دورا فى غزة فى اليوم التالى للحرب، وفقا للرؤية الأمريكية، وتحول الأمر إلى مادة لخلاف، لم يكن هذا توقيته على الإطلاق، بين فتح والسلطة من جهة، وحماس مع ثلاثة فصائل آخري، وتم اتهام فتح بالتفرد فى القرار، والتى ردت بتحميل حماس مسئولية نكبة غزة، كما سماها البيان، وتساءلت هل شاورت حماس القيادة الفلسطينية فى قبل القيام بعملية طوفان الأقصي؟ وحقيقة الأمر أن الوزارة الجديدة حظيت بدعم عربي، كما أعلنت واشنطن رغبتها فى التعاون معها، بينما اختلف الوضع داخل تل ابيب، والرافضة لاى دور للسلطة، فهى تتناقض مع البرنامج الذى طرحه نتنياهو فى فبراير الماضي.

إفشال المخطط

وبعد فهل ينجح قادة فلسطين فى الحفاظ على الزخم الذى خلفته طوفان الأقصى على كافة الأصعدة؟ وإفشال أى مخططات جاهزة، لتصدير ازمة تل ابيب الى الداخل الفلسطيني، وانهاء كل جهود لتوحيد الصف الفلسطيني، والبناء على كل ماتحقق منذ اكتوبر الماضي، رغم الثمن الفادح الذى دفعه الشعب الفلسطينى من دماء ابنائه، وحجم الدمار والأضرار التى لحقت بقدراته وممتلكاته، فى طريق إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة والموحدة، نتمنى أن يستفيد الجميع من نتائج مرحلة ما بعد الانتفاضة.