كنوز| «العدد 5000».. روزاليوسف فى مرآة وحيدها إحسان عبد القدوس

فاطمة اليوسف تتوسط ابنها إحسان عبد القدوس وابنتها آمال طليمات
فاطمة اليوسف تتوسط ابنها إحسان عبد القدوس وابنتها آمال طليمات

احتفلت مؤسسة «روزاليوسف» التى ترأس مجلس إدارتها الزميلة هبة صادق بصدور العدد «5000» من مجلة «روزاليوسف» التى يرأس تحريرها الزميل أحمد الطاهرى، وتشاء المصادفة أن يصدر هذا العدد بعد ثلاثة أيام فقط من حلول الذكرى 66 لرحيل الرائدة العظيمة «فاطمة اليوسف» التى أصدرت هذه المجلة فى 26 أكتوبر 1925، وبعد عشر سنوات أصدرت «روزاليوسف» اليومية فى 25 مارس 1935 التى ترأس تحريرها عبد الرحمن بك فهمى، وأصدرت «صباح الخير» فى 17 يناير 1956 التى أسندت رئاسة تحريرها لأحمد بهاء الدين. فاطمة اليوسف رحلت عنا فى العاشر من أبريل 1958، أسطورة فنية صنعت مجدها المسرحى فأطلق عليها النقاد «سارة برنار الشرق»، وأسطورة صحفية باعتبارها رائدة فى عالم الصحافة بالمجلة التى حملت اسم شهرتها، وهى من قالت: «كلنا سنموت، لكن هناك فرق بين شخص يموت وينتهى وشخص مثلى يموت ويظل حياً بسيرته وتاريخه»، رحلت فاطمة اليوسف وبقى اسمها على مطبوعاتها التى أزعجت الحكومات والقصر والأحزاب فى العهد الملكى، ووثقت لكل المتغيرات التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية فى تاريخ مصر والمنطقة العربية والعالم، وما زالت تنبض بالحياة من خلال الأجيال التى تسلم الرايةَ جيلاً بعد جيلٍ.

إذا كنا اليوم نحيى فى «كنوز» الذكرى 66 لرحيل هذه الرائدة العظيمة فأفضل من يحدثنا عنها هو ابنها الكاتب الراحل الكبير إحسان عبد القدوس الذى كتب لها مقدمة كتابها «ذكريات» التى حملت عنوان «هذه الذكريات ناقصة إلى حد كبير!»، ويقدم لنا فيها وصفاً دقيقاً لشخصية والدته عندما يقول: «لقنت نفسها أصول الوطنية والمبادئ السياسية واستطاعت أن تملى أدق الآراء، وتتنبأ بأصدق التنبؤات، ولم يسقط رأى من آرائها، ولم تخطُ مصر خطوة من تاريخها إلا وكانت هى الداعية لها، وهى السيدة التى لا تحمل شهادة مدرسية ولا مؤهلاً علمياً، أخرجت جيلاً كاملاً من الكتاب السياسيين والصحفيين وأرشدت أقلامهم ووجهتهم وبثت الروح فيهم، هى السيدة اليتيمة التى واجهت مسئوليات الحياة وهى صغيرة، استطاعت يوماً أن تتحدى الإنجليز والملك والأحزاب، وتآلبوا جميعاً عليها وحاولوا هدمها والقضاء على الصفحات الثائرة التى تحمل اسمها، لكنهم لم يستطيعوا إلا أن يجعلوها فقيرة أحياناً، وأن يسجنوها حيناً، وأن يصادروها عشرات المرات، وأن يحاكموها مئات المرات.. وأن.. وأن.. لكن الصفحات الثائرة ظلت تصدرُ بانتظامٍ، ولم يستطع أحد منهم أن يقضى عليها، لم يستطع أحد منهم أن يحنى الرأس العنيد القوى، لم يستطع أحد منهم أن يكون أقوى من هذه السيدة الوحيدة اليتيمة»!.

ويلفت إحسان نظرنا بأسلوبه البليغ الرشيق إلى أن والدته كانت تحمل مجموعة من المتناقضات حيرته شخصياً لأنها لا يمكن أن تجتمع فى إنسانٍ واحدٍ، فيقول : 

«إنها هادئة رقيقة تكاد تذوب رقة، يحمر وجهها خجلاً إذا ما سمعت كلمة ثناء، ويكاد صوتها الناعم الخفيض الرفيع المنغم أن يشبه صوت فتاة فى الرابعة عشرة، تفضل العزلة ولها دنيا خاصة تعيش فيها، وليس لها كثير من الأصدقاء الخصوصيين، رجالاً أو نساء، وأغلب من يعرفونها لا تعرفهم، تكره المجتمعات وتكره أن تقيم فى بيتها حفلاً أو مأدبة، وفى بعدها عن الناس يفوتها كثيرُ من المجاملات التى يتطلبها العمل، وهى بعد كل هذا قلب طيب ينشر الحب والسلام، حتى تبدو ساذجة تستطيع أن تضحك عليها بكلمة، ويد سخية تعطى باستمرار وتأبى أن تأخذ نظير ما تعطى، هذا وجه من أوجه شخصيتها، وجه تراه فى بيتها، وهى واقفة فى المطبخ تعد طبق ورق العنب، كزوجةٍ مثالية تدور بين الغرف ترتب قطع الأثاث، وتنمق أوانى الزهر، تراها فى مكتبها وكل شيء هادئ والعمل يسير فى نظامه الرتيب، وفجأة يتغير هذا الوجه، فإذا به أعنف من العاصفة، وإذا بهذا الصوت الرفيع يرتفع ليزلزل مكاتب المحررين وعنابر المطبعة، قوية إلى حد القسوة، جريئة إلى حد التهور، إلى حد أن تقول لكريم ثابت المستشار الصحفى للملك عندما جاءها يبلغها تهنئة الملك فاروق بمرور عام من أعوام مجلتها: «قل لمولاك أنى أرفض تهنئته»، وجريئة إلى حد أن تقول لرئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادى وهو فى سطوة نفوذه: «يا إبراهيم استقل»، وقاسية إلى حد أن تطردنى من العمل أو تستغنى عن خدمات محررٍ آخر، ربما لم يمضِ على منحه مكافأة أسبوع واحد، وبخيلة إلى حد أن ترفض قرضاً لعامل قد تكون وهبته بالأمس إعانة من جيبها الخاص، وعندما ندقق ونحلل مبررات كل هذه المتناقضات، نراها محقة فى هدوئها، وثورتها، وطيبتها، وقسوتها، وكرمها، وبخلها!».

ويتساءل إحسان فى محاولة لتفسير تلك التناقضات قائلاً: «هل يكفى أن نقول إنها ذكية؟، وأن نقول إنها قوية؟، وأن نقول إنها صادقة الإحساس، أنا نفسى لا أدرى! فإذا اقتربت منها وحاولت أن أدرسها بإحساسى كابن لها، ازددت حيرة، فهى أم حنون مرهفة العاطفة، إلى حد أنها أحياناً تبكى وهى تقبلني، وعاطفتها تغلبها أحياناً فتقبلنى أمام زملائى المحررين، وأذوب أنا خجلاً منهم ! وتفرح باليوم الذى أقضيه فى بيتها كأنها أم ريفية تستقبل ولدها بعد غيابٍ طويل، وتكاد تشعرنى بأنها ابنتى أكثر منها أمى فأضمها بين ذراعى وأسند رأسها على صدرى وأربت عليها وأغمر جبينها الطاهر بقبلاتى كأنها طفلة تحتمى بى، ويبلغ من حنانها، أنها - قبل أن أشترك معها فى العمل - كانت تخفى عنى كل ما يصيبها من نكباتٍ! فحدث أن خسِرت كل ما تملك نتيجة حملة اضطهاد سلطتها عليها حكومة الوفد، حتى إنها لم تستطع أن تدفع رواتب الخدم والسائق، فتركوها جميعاً وكل منهم يترك دموعه فوق يدها وهو يقبلها، واستطاعت أن تستخلص القليلَ مما بقى لتضمن للمجلة استمرار ظهورها، ومرت أيام لم تكن تجد فيها ثمن الطعام الذى تأكله، كنت أتردد عليها كل أسبوع فتعطينى عشرة قروش للذهاب إلى السينما، وهى فى حاجة إلى خمسة منها لتأكل بها.

مرت بها أزمة واضطرت لبيع سيارتها وكانت تضطر لأن تسير كل صباح ساعة من بيتها فى الزيتون إلى سراى القبة لتركب الأتوبيس الذى يوصلها إلى مكتبها، وكانت تقول لي: إن الطبيبَ أوصاها بالسير للمحافظة على صحتها، كل هذا الحنان الذى لا تستطيعه كل أم، كان يقابله قسوة لا أعتقد أن كل أم تستطيع أن تقسو بها على ابنها، فقد طردتنى مرة من العمل، وأنا متزوج وصاحب أولاد، وظلت عاماً كاملاً لا تخاطبني، تلتقى بى فتتجاهلنى، وأمد يديّ لأقبل يدها فترفضها، بل إنها ضربتنى يوماً فى مكتبى وبين زملائى عقب تخرجى فى الجامعة، وأعترف بأن هذه القسوة كانت من الأحجار القوية فى بنائى، فى كل سطر من ذكرياتها تقول: «أنا صنعت من نفسى هذه السيدة»، أنا أقول: «أمى صنعت منّى هذا الرجل».

استوعب إحسان الابن أن هذه السيدة العظيمة كانت تصنع منه رجلاً يُعتمد عليه، وعندما كان رئيساً للتحرير طلب أن تخصص له الدار سيارة، فصاحت فيه غاضبة: «الأستاذ محمد التابعى لما كان رئيس تحرير، كان بيركب بسكلت»!

ولا ينسى إحسان ما كتبته له من نصائح عقب خروجه من السجن تقول فيها : «مهما كبرت ونالك شهرة، لا تدع الغرور يداخل نفسك، فالغرور قاتل، كلما ازددت علماً وشهرة تأكد أنك ما زلت فى حاجة إلى علم وشهرة، مهما تقدمت بك السن فلا تدع الشيخوخة تطغى على تفكيرك، بل كن دائما شاب الذهن والقلب وتعلق حتى آخر أيامك بحماسة الشباب، حارب الظلم أينما كان وكن مع الضعيف على القوى ولا تسأل عن الثمن، حاسب ضميركَ قبل أن تحاسب جيبكَ، وكن قنوعاً ففى القناعة راحة من الحسد والغيرة»، وبنصائحها عاش إحسان متألقاً بقلمٍ لا يشيخ، وضميره يساند المظلوم والمقهور، ورومانسياً حالماً بالحرية .