أيمن موسى يكتب: بوتين يرسم ملامح «روسيا الجديدة»

أيمن موسى
أيمن موسى

لا شك فى أن المشهد السياسى سواء فى روسيا أو خارجها على خلفية الانتخابات الرئاسية الأخيرة كان موحيا للغاية حيث أظهر مدى مساندة الشعب الروسى لزعيمه فلاديمير بوتين بل وتراص الشعب الروسى فى مواجهة التحديات، والأكثر من ذلك هو إعطاء المثال الحى على القدرة على تنظيم انتخابات تفوق فى دقتها وتنظيمها وشفافيتها التجارب الغربية المماثلة ، إلا أن هذه الثقة العالية من جانب الشعب تجاه قيادته ينبغى أن تقابل بوعى رفيع المستوى من جانب القيادة الروسية نحو مستقبل هذا الوطن وضرورة عدم ارتباط هذا المستقبل بشخصية زعيم منفرد أو حتى نخبة حاكمة منغلقة الدوائر ، وهذا بالفعل ما اظهره الرئيس الروسى ليضيف إلى رصديه العالى لدى شعبه حيث فاجأ الرئيس بوتين فى خضم حملته الانتخابية بالحديث عن «روسيا الجديدة» وخريطة الوصول لبنائها.

لاحظ الكثيرون أنه عندما بدأ الرئيس الروسي الحديث عن ملامح روسيا الجديدة وهو الموضوع الذى حتى وقتنا هذا لم يتطرق له أى مسئول فى روسيا سوى الرئيس بوتين فقط، لاحظوا أنه بدأ بالتركيز على العدالة كأحد أهم أعمدة هذه الدولة الجديدة، بل إن البعض لفت الأنظار أيضاً إلى أن هذه ربما تعتبر المرة الأولى التى يتحدث فيها الرئيس بوتين عن احتمالات وجود نواقص فى العدالة وإن كان الحديث خلال حملته الانتخابية كان يدور عن غياب العدالة فى العالم ولكنه كان فى ذات السياق يتحدث عن الأوضاع الداخلية. وأعتقد أن الرئيس بوتين فى هذا الشق بالذات ربما كان يتحدث عن الارتقاء بمستوى جديد من العدالة ، فخلال محاولات الغرب تفجير ثورة ملونة فى روسيا وكان المنساقون وراءهم يرددون عبارات تطالب بالعدالة، كان رد الرئيس الروسى هو «أن الشعب ذاق طعم الرفاهية وبحبوحة العيش واليوم يتحدثون عن جوانب ربما يعتقدون بغيابها».

العدالة شأنها شأن قيم ومبادئ كثيرة ينبغى تطبيقها فى المجتمعات المختلفة بالنسبة التى تحفظ لها توازنها وثبات مسيرة تقدمها ومع كل مرحلة يعاد النظر فى هذه النسب، وأعتقد أن الرئيس الروسى بصدد إعادة النظر فى المرحلة القادمة فى نسب تطبيق عدد كبير من القيم والمبادئ والأسس فى بلاده مع الدخول فى مرحلة جديدة من تاريخها تتحمل وتستوعب عملية إعادة ترتيب البيت الداخلى وقيم الحياة بما يزيد من رسوخ الدولة وثبات حركتها نحو المستقبل.

ودون الخوض فى هذه النظريات يكفى أن نذكر بأن المبالغة فى الديمقراطية قد تقود للفوضى والمبالغة فى العدالة قد تفقد الحقوق والمبالغة فى احترام وتقدير الآخرين قد تفقد الهيبة والوقار وغيرها من المثل التى يرتبط تطبيقها بنسب تتفق مع طبيعة كل شعب على حدة ومدى استعداده لتقبل الجرعات المختلفة منها.

◄ دور الشعب
وحتى تتمكن روسيا من المضى قدما وبثبات نحو المستقبل أكد الرئيس بوتين أن الدولة تحتاج إلى نوعية جديدة من السلطات، حيث أوضح كلامه بأن الحديث هنا لا يدور حول تغيير فى الشخصيات ولكن فى أسلوب التفكير فى إيجاد الحلول للمشاكل، وهو ما يتطلب فى تصوره العمل بجدية ونشاط من الآن ليس على تشكيل بل وبناء نخب جديدة قادرة على قيادة الدولة والمجتمع ويمكن من خلالها اختيار السلطات وتشكيل الحكومات القادمة، وهنا أفرد حديثا خاصا عن دور الشباب فى مختلف المواقع بما فى ذلك المواقع الحزبية والتشكيلات السياسية المقبلة.
وأكد بوتين، خلال حديثه عن جهود بناء روسيا الجديدة، على دور الشعب، حيث أشار إلى أنها ستقوم بسواعد الشعب الروسى فى مختلف المجالات الاقتصادية منها والدفاعية والعملية والثقافية والتعليمية، وعلى صعيد السياسة الداخلية بما يرفع من مستوى الكفاءة فى كافة مناحى الحياة فى الدولة الروسية ويجعلها فى مقدمة الدول الجاذبة.

وتبرز أهمية دور الشعب ليس فقط فى مسيرة إعادة بناء الدولة ولكن أيضاً فى وضع التصورات حول شكل الدولة المرغوب الوصول إليها حيث أشار الرئيس الروسى فى حملته الانتخابية إلى أن اللجنة المشرفة على الحملة تلقت أكثر من 80 ألف رسالة من مختلف شرائح المجتمع بما فى ذلك 40% يعبرون عن المساندة للمرشح و60% يتحدثون عما ينبغى التركيز عليه فى المرحلة المقبلة، وهُنا شدد الرئيس الروسى على ضرورة الانطلاق من هذه الرغبات والآراء فى وضع تصور مسيرة بناء «الدولة الجديدة»، مع فتح حوار مجتمعى موسع لوضع الصياغة النهائية والعميقة لمسيرة البناء هذه.

◄ النخبة الجديدة
ونوه الرئيس الروسى، فى إطار حديثه عن الجهود المطلوبة لبناء مستقبل الدولة الروسية الجديدة إلى أن برامج الحماية الاجتماعية سواء لكبار السن أو الأسر متعددة الأطفال أو مختلف الشرائح التى تحتاج للمساعدة ستستمر دون أى انتقاص بل سيجرى تعزيزها بشكل منتظم ووفقًا للخطط الموضوعة دون أى انتقاص لأية ظروف قد تستجد.

من أكثر ما ينبغى أن يلفت انتباهنا فى حديث الرئيس الروسى عن بناء النخبة الجديدة ـ تركيزه على الأجيال الصاعدة من المراكز التى شيدتها روسيا واستثمرت فيها الكثير على مدار العقود الأخيرة، على غرار مركز سكولكوفا للإبداع، حيث أنشأت روسيا سلسلة كبيرة من مراكز الأبحاث والتطوير والإبداع التى تتيح للنابغين من مختلف الأعمار والتخصصات تطوير ملكاتهم وإبداعاتهم وربما قد حان الوقت الآن لكى تبدأ روسيا فى جنى ثمار هذه السياسة بعيدة المدى والتى سوف تتجلى فى تشكيل النخب الجديدة فى مختلف المجالات ممن تتوفر لديهم المقدرة على قيادة الجمهورية الجديدة.

وقد يعتقد البعض أن تفكير الرئيس الروسى فى بناء نخبة جديدة هو وليد اللحظة أو وليد ظروف الانتخابات، وأنا شخصيا أعتقد العكس، حيث عانت روسيا من أزمة طويلة ربما تمتد لعقود عديدة، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتى كان هناك صراع بين نخبتين لا تقل كل منهما قوة عن الأخرى، فالأولى تمثل فلول النظام الشيوعى والذين صارعوا للتمسك بالسلطة والسيطرة على مختلف قطاعات الدولة وكانت فى ذلك تواجه النخبة الثانية التى كانت تطلق على نفسها النخبة الليبرالية التى يقف وراءها الغرب، فكانت الأولى تتمسك بمجد الماضى الذى انهار، وكانت الثانية مستعدة للتنازل عن كل شىء سعيدا وراء الثراء والثروة، إلى أن ساق القدر بوتين ليحاول استعادة سيطرة الدولة على كافة مناحى الحياة بدرجات ونسب تختلف وفقا للمرحلة والمتطلبات لتعزيز أركان الدولة ورد هيبتها من جديد، وهو ما يعنى أن العمل حاليا على بناء النخبة الجديدة إنما يعنى ولادة نخبة جديدة على أسس وطنية خالصة وغير خاضعة لمؤثرات خارجية أو أطماع وطموحات تخص آخرين، والأكثر من ذلك أنها تخرج من صلب الشعب الروسى، وتقتدى بأحلامه وطموحاته وتتسلح بأحدث أدوات والتقدم والحداثة فى كافة المجالات.

ما يقصده الرئيس الروسى هو بناء دولة جديدة أفضل من القديمة، دولة العدالة والمساواة والشفافية والكفاءة والتقدم العلمى، دولة الاستدامة التى تكافح الفساد ولا يتجرأ أحد على تهديد مصالحها.

◄ المنغصات
ولكن يبقى التساؤل عما إذا كانت هذه المسيرة ستتطور بسلاسة دون منغصات أو بالأحرى دون مقاومة من أصحاب المصالح سواء فى الداخل أو الخارج؟، من يصدق بأن روسيا لن تواجه مقاومة شرسة على هذا الطريق فهو ساذج، وروسيا ذاتها تدرك أن الغرب سيجاهد بكل ما أوتى من وسائل لمنع تطور مسيرتها، فقد حرص الغرب على حجب التكنولوجيا وعدم التعاون فى المجالات العلمية مع الاتحاد السوفيتى، كما حاول فى مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتى السيطرة على كافة محاور التطور فى روسيا، خاصة أنه يدرك أن روسيا تعتبر من أغنى بل هى أغنى دول العالم فى مصادر الثورة الطبيعية المختلفة، ولديها من الكوادر والمراكز العلمية ما يساعدها فى ضمان الاستدامة فى التطور ، لذلك فسيعمل على منع التعاون معها فى مختلف المجالات التى تقود للتطور، كما سيعمل على مواصلة سياسات جربها من قبل ونجحت فى مجال ليس اجتذاب بل سرقة العقول المبتكرة وأصحاب المهارات، ويكفى أن نتذكر أنه فى أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتى وحتى 2017، وفقًا لدراسات الجهاز الفيدرالى للإحصاء فى روسيا فقد غادر روسيا أكثر من 10 ملايين نسمة بما يمثل وقتها 7.4% من تعداد السكان أو 9.7% من الشريحة القادرة على العمل، ولوحظ فى هذه الفترة تركيز الغرب على اجتذاب العلماء والمبدعين الروس بدرجة أكبر بكثير من أقرانهم من الدول المجاورة سواء فى وسط او شرق أوروبا او اسيا الوسطى، كما لوحظ منذ اندلاع الحرب فى 2022 بأوكرانيا غادر روسيا 2500 كادر فى مختلف النواحى العملية بما فى ذلك الدقيق منها حيث اتجهوا إلى الغرب وهو ما تداركته روسيا بسرعة عن طريق استثناء شرائح معينة من المتخصصين من التجنيد والتعبئة العامة.

◄ بناء الحقيقة!
ومن هُنا تبرز أهمية ما تحدث عنه الرئيس الروسى من جعل روسيا دولة جاذبة بحيث لا يتوقف الأمر عند مجرد الحفاظ على كوادرها بل واجتذاب المزيد من الكوادر سواء عن طريق إتاحة الفرصة لأبناء مختلف الدول للدراسة بها وانتقاء المناسب منهم أو اجتذاب الكوادر المتخصصة فى مختلف المجالات من الدول الأخرى أو تشجيع الكوادر المهاجرة على العودة من جديد للوطن حيث ستجد الإمكانيات لمواصلة البحث العلمى وتحقيق الذات والرفاهية.

وبطبيعة الحال لا يخلو الأمر من الأصوات التى لا نقول إنها تسحب عكس التيار ولكنها ربما تعبر عن قلقها إزاء صياغة خطط نحو المستقبل بينما الحاضر مازال غارقا فى حرب لا يعرف أحد مآلها النهائى، وهنا حرص الرئيس الروسى على التأكيد على الفصل بين الحرب وخطط التنمية، وهو ما يبدو بمثابة حلقة هامة جدا من الحرب النفسية التى يمارسها بوتين سواء على أوكرانيا أو الغرب ورسالة مفادها أن روسيا عقدت العزم على مواصلة البناء فيما يمكن تسميته «إعادة البناء الحقيقية» دون النظر إلى اعتبارات الحرب التى تحقق فيها المزيد والمزيد من المكاسب والمزيد والمزيد من إنهاك الخصم ومن يقفون وراءه.

وفى النهاية، نلاحظ هنا أن كافة الخطط التى يشرف الرئيس الروسى على صياغتها أو يطالب بصياغتها إنما ترتبط بدور محورى ورئيسى للشباب، فالشباب هم المستهدفون من تطوير التعليم وتعزيز البحث العلمى ، والشباب هم الشريحة التى ستتشكل منها النخبة الجديدة التى ستقود الوطن نحو المستقبل، والشباب هم عماد التنمية الاقتصادية، خاصة أنه فى 2023 وحده زاد عدد أصحاب الأعمال المشروعات فى روسيا من شريحة الشباب بنسبة تزيد على 20%، وهو ما يؤكد أن الشباب فى روسيا لم يعودوا يتطلعون إلى العمل البيروقراطى أو الحكومى وإنما إلى الإبداع الفردى وتنمية المهارات الذاتية وخوض تجارب البيزنيس مهما كانت مخاطرها وصعوباتها.

◄ ما بعد بوتين؟
وقد يعتقد البعض أن الرئيس الروسى قد تجاهل حتى التلميح بالإجابة على سؤال مازال يحير الكثيرين وهو بشأن من قد يخلفه فى قيادة الدولة الروسية، ولكن من يمعن النظر فى تصريحات الرئيس الروسى فسوف يكتشف أنه تحدث عن بناء النخبة والشباب والديمقراطية وهو ما يعنى أنه يعتزم تعزيز الأساس وترك مهمة اختيار القيادة الجديدة للشعب، كما أنه بالنظر إلى الأولويات التى وضعها الرئيس بوتين لبناء الجمهورية الجديدة كانت مصر سبّاقة منذ 30 يونيو 2023 فى صياغتها وتعزيز بنائها فى إطار تأسيس الجمهورية الجديدة وعلى رأسها الاهتمام بدور الشباب وتربية الكوادر والأجيال الجديدة القادرة على قيادة مستقبل الوطن إلى جانب تعزيز العناصر التكنولوجية الحديثة فى مختلف مناحى الإنتاج وخلق أنماط جديدة فى الفكر الإنتاجى والاستهلاكى، وقبل كل شىء ما يتلاقى حوله البلدان من تعزيز السيادة الوطنية بمفهومها الجديد والذى يشمل السيادة فى كافة مناحى الحياة وليس مجرد السيادة على مساحة محددة من الأراضى.