من دفتر الأحوال

أوهام إجرامية

جمال فهمى
جمال فهمى

منذ أن أطلق فيلسوف الحرب والمفكر الاستراتيجى الأشهر كارل فون كلوزفيتس (1780 ـ 1831) تعريفه للحروب عمومًا بأنها «امتداد للسياسة بوسائل أخرى»، صارت العلاقة العضوية بين الكلمتين «الحرب» و»السياسة» حقيقة راسخة ليس فقط عند النخب السياسية والعسكرية، ولكن أيضا عند قطاعات واسعة من جمهور الناس العاديين.

 إذن علاقة الحرب بالسياسة لم تعد تحتاج إلى شرح وكلام كثير أو قليل، سوى فقط ما يتعلق بمقدار الصواب أو الحماقة التى قد تنطوى عليه الأهداف السياسية لأية حرب، فدائما لابد من وجود هدف سياسى قابل للتحقق ويمكن رؤيته عندما تصمت المدافع ويهدأ غبار السلاح، ففى هذه اللحظة يتضح بجلاء من المنتصر ومن المهزوم.

من منظور هذه الحقيقة البديهية فى معنى الحرب، وإذا تأملنا قليلًا تلك المحرقة الرهيبة التى ينفذها العدو الإسرائيلى حاليا ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، وبعد ما يقارب السبعة شهور منذ إطلاقها، فإننا نجد هذه الحرب الجنونية مربوطة بهدفين اثنين متكاملين ومعلنين من جانب حكومة العدو (الأكثر عنصرية وتطرفًا وجنونًا فى تاريخه).

الهدفان هذان هما أولا: إجبار أعداد هائلة من المواطنين الفلسطينيين، تحت لهيب محرقة متنوعة الأسلحة ولا مثيل لها فى التاريخ، على الاختيار بين البقاء فى لهيب المحرقة أو النزوح خارج قطاع غزة (إلى سيناء المصرية)، ومن ثم تنفيذ حلم إجرامى يداعب منذ سنين وعقود طويلة عقول القادة الصهاينة، هذا الهدف هو الخلاص من أكبر عدد ممكن من أصحاب الأرض الأصليين الباقين فى وطنهم وتكرار نكبة العام 1948.

أما الهدف الثانى فهو اجتثاث منظمات المقاومة الفلسطينية بعدما تتحول أرض القطاع بالذات إلى أرض خراب فارغة من أهلها. 

وكما ترى عزيزى القارئ، فإن الهدفين كليهما يحلق بعيدا فى الوهم ويلامس حدود الجنون، فالتهجير القسرى لجحافل المواطنين العرب الفلسطينيين الذى وضعه المُخطط الصهيونى كهدف أول لمحرقة غزة الحالية، هذا المُخطط يغيب عن عقله المصاب بهوس وحشى، حقيقة تبدو ناصعة كالشمس فى كبد النهار وهى أن ما جرى فى العام 1948 لا يمكن تكراره اليوم بعد مرور ثلاثة أرباع القرن، ليس فقط لأن العالم تغير جذريا على الأقل لجهة أن القيم والمبادئ الإنسانية الرفيعة صارت الآن أكثر رسوخا ونصاعة مما كانت قبل منتصف القرن الماضى، ولكن الأهم أن وعى الشعب الفلسطينى تطور تطورا مذهلا وأصبح شديد الإدراك والإيمان بكينونته الوطنية وهويته القومية، ودفع للحفاظ عليهما أثمانا باهظة ومخضبة بشلال دماء لم ينقطع على مدى سنين وعقود طوال.

ولكن مصر التى يراد منها أن تفتح حدودها أمام جحافل المقتلعين عنوة من أراضيهم، تقف حاليا مجتمعا ودولة صفًا واحدًا متلاحمًا وصلبًا ضد خطة العدو.       

يبقى الهدف الثانى والأخير لحرب الإبادة التى أطلقها العدو (مستعينا بأحدث ما تنتجه المصانع الأمريكية من آلات القتل) ضد أهلنا العُزل فى غزة، أى اجتثاث منظمات المقاومة من بدن المجتمع الوطنى الفلسطينى فى غزة، هذا الهدف لا يقل خبلًا وخرافية عن هدف التهجير، فالمقاومة ابن أنجبه شعب فلسطين من رحم نكبته ومآساته ومن ثم فإن هذه المنظمات جزء عضوى من النسيج الشعبى، لابد من إبادة الشعب تامة وكاملة حتى يتحقق هدف إبادة مقاومته، وهو أمر يسكن فى قلب الخرافة شخصيًا.

الخلاصة.. أن تلك الحرب التى يشنها العدو الآن على ما تبقى من أرض وشعب فلسطين وتتنافس فيها آيات الوحشية مع مظاهر الجنون، لن تحقق أى هدف سياسى وأى انتصار من أى نوع.. اللهم إلا مراكمة جثث وجثامين الشهداء بعشرات الآلاف وعجن الحجر بالبشر.. لكن متى كان الخراب وعدد الجثث دليلًا على النصر؟.. بالعكس ربما كان الخراب الزائد والانفجار المروع فى أعداد الشهداء، دليل أكيد على هزيمة نكراء.. كيف ؟ الإجابة فى سطور المقال المقبل.