النيويورك تايمز تتبَّع رحلة إيمان مرسال إلى عنايات الزيات

عايدة عَلمى.. النيويورك تايمز تتبَّع رحلة إيمان مرسال إلى عنايات الزيات
عايدة عَلمى.. النيويورك تايمز تتبَّع رحلة إيمان مرسال إلى عنايات الزيات

(بالنسبة إلى إيمان مِرسال، كانت الرواية الصغيرة تجربة «تُغيِّر الحياة». كتابها فى أثر عنايات الزيَّات، يروى رحلتها فى تتبع خطوات الكاتبة التى كاد أن يبتلعها النسيان).

ذات يوم من خريف 1993، كانت إيمان مقرفصة فوق كومة كتب لدى أحد باعة سور الأزبكية فى القاهرة، حين عثرت بالمصادفة على كتاب نحيل بغلافٍ رمادى له عنوان جذاب: «الحب والصمت».

وكانت مِرسال طالبة دراسات عُليا آنذاك، وظنَّت أنَّ مؤلِّفة الرواية قد تمَّت بِصلة قرابة إلى لطيفة الزيَّات، الروائية والمناهضة الشهيرة للاستعمار، فاشترت الكتابَ بجنيه مصرى واحد.

اقر أ أيضاً | باحث بجامعة القاهرة يحصل على درجة الدكتوراة في المسؤولية الجنائية عن استخدامات الذكاء الاصطناعي

ما عثرت عليه مِرسال بدلًا مِن ذلك هو رواية حميمية تستبطنُ النَفس، عملًا أصيلًا لكاتبة فى مرحلة مبكرة من مصر المعاصرة لكنه أغفلَ بدرجة كبيرة. كتبت مِرسال، فى وقتٍ لاحق، كان الصوت: «عصريًا، غريبًا، وعصى على التصنيف».

قالت إنَّ الكتابَ هزَّ كيانها ودفعها فى رحلة قرابة الثلاثين عامًا لكى تعلم ما يمكنها الوصول إليه حول المؤلِّفة، امرأة مصرية شابة تُدعى عنايات الزيَّات توفيت على إثر انتحارها سنة 1963 بتناول جرعة زائدة من أقراص دواء. ولم تترك خلفها سوى رسالة قصيرة بجانب فراشها موجَّهة نحو ابنها، تقول فيها: «ابنى الحبيب عبَّاس، أُودّعك... وأقول لك إننى أحبُّك.. غير أنَّ الحياة غير محتَملة. سامحني بعد رحيلها طوى النسيان كتابتها الأدبية.



كتاب «فى أثر عنايات الزيَّات»، ترجمه إلى الإنجليزية روبِن موجَر، وصدر فى الولايات المتحدة عن دار ترانزِت بوكس- Transit Books، وفيه تعيدُ مِرسال إحياء قصة الكاتبة الراحلة. نُشرَت النُسخة العربية سنة 2019 وبعد سنتين فازت بجائزة الشيخ زايد للكتاب وحققت نجاحًا على المستوى العربى. الكتاب استكشاف دقيق وكونى لمفهوم الهوية، عبرَ مزيج من أنواع أدبية.

صرَّح المحرر الأمريكى للكتاب، آدم ليفى، قائلًا: «يتسرَّب إليكَ عبر الصفحات إحساسٌ بالحنين إلى مكانٍ وذاتٍ غادراك». كما أضافَ أنَّ الكتاب يبدو مثل سيرة غير ذاتية، غير أنَّه أكثر طموحًا وإثارة للاهتمام من ذلك. «بينما تقرأ تبدأ فى الشعور بحضور إيمان فيه، لكن بدقّة ولُطف».

مِرسال، فى السابعة والخمسين الآن، من بين أهم الكتَّاب المصريين فى جيلها، نشأت فى ميت عدلان، وهى قرية على دلتا النيل، شمالى مصر. وهى طفلة، وقعت فى غرام اللغة والأغنيات، وكانت تغلق على نفسها غرفتها وتستمع لما يبثه الراديو من موسيقى ومسرحيات وأفلام يصاحبها مذيع يروى أحداثها. 

فقدت أمَّها وهى بَعد بُنية صغيرة السِن، وفى الصف الخامس الابتدائى كتبت قصيدتها الأولى، وهى نقد لتقليد عيد الأم بدأته بعبارة «ضد الأمومة». قالت إنها كتبتها فى حالة من الغضب، وتَلتها خلال الاحتفال بهذا اليوم فى فِناء المدرسة. 

 قالت مِرسال، وهى أم لابنين: «بَكت مُعلِّمة شديدة المِراس، فاعتبرتُ نفسى كاتبة مِن يومها».

بلغت عنايات الزيَّات الرُشد فى أثناء الحقبة الذهبية للأدب المصري؛ فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، تحت حُكم جمال عبد الناصر. وقعَ كثيرٌ مِن الكتّاب المؤثرين لتلك الحقبة تحت تأثير الرغبة فى تغيير المجتمع. إيمان مرسال أيضًا تفاعَلَت مع كُتَّاب أرادوا تغيير العالَم، وانضمَّت لمجلة نسوية اسمها «بنت الأرض» سنة 1986. لكنها لم تعرف آنذاك لأى نوع من المثقفين أرادت أن تصير.

قالت: «كان المشهد الأدبى يهيمنُ عليه الحرسُ القديم ممَّن آمنوا بالقومية العربية أو الشيوعية، ورأوا أن الأدب قادر على تغيير الوضع القائم، كنتُ أفكر فى اكتشاف صوتى الخاص. والتعبير عن علاقتى بأبى، علاقتى القاهرة، بمدينة المنصورة. كنتُ منشغلة بالفردية».

فى 1992، زارت إيمان بغداد لتلتقى بنساء تأثرن بحرب الخليج فى العراق وبوحشية النظام الحاكم فى بلادهم. فى ذلك الحين بدأت تضع أهدافها موضع الشك والتساؤل. 
«تلك تجربة حوَّلتنى تمامًا. واجهت الكثير من الأسئلة»، هكذا قالت إيمان فى مقابلة معها من الأستوديو الذى تعمل منه فى إدمنتون، ألبرتا، حيث تقيم. «ما معنى القومية العربية، وما معنى أن تكون كاتبًا مُلتزمًا؟».

وقد فُتحَت قبالها منظورات جديدة مع اكتشاف كتاب «الحب والصمت»، حيث توثيق أمين لمعاناة امرأة أخرى ولاكتشافها لذاتها. الكتاب الذى لم يُنشَر إلَّا بعد وفاة كاتبته بأربعة أعوام، يدور حول نجلاء، الشابة الحزينة على رحيل أخيها من فترة قريبة وتحاول تَبيُّن موضعها وسطَ سياقٍ سياسى مشحون. يرسم صوت الراوى الخام محاولات نجلاء للعثور على نفسها، وكيف تخفق بوحشية فى كل مرة. 

قالت مِرسال إنَّه على الرغم مِن أنَّ رواية عنايات الزيَّات لا تخلو من عيوب، فقد بدَّل حياتها، فقد كانت إيمان تواجه الاكتئاب وتحاول العثور على معنى لحياتها. ««لقد تحدَّثت هذه الرواية إلى على نحوٍ لم أعهده لدى أى كاتبة أخرى».

انتقلت مِرسال إلى الولايات المتحدة فى عام 1998، ثم إلى كندا فى فترة لاحقة، حيث تقيم منذ ذلك الحين بصفتها أكاديمية وشاعرة ومُترجمة وكاتبة. غير أنَّ عنايات الزيَّات نشأت وعاشت فى عالمٍ مختلف تمامَ الاختلاف، بين أبناء الطبقة العالية فى القاهرة.
 
على مدار سنوات، أخذت مرسال الوقت اللازم بلا عجلة لكى تُبحر بحرص وهدوء فى عالم عنايات الزيَّات. وضمَّنت رِحلتها هذه فى كتابها، مصطحبةً القارئ إلى أماكن لا يتاح دخولها إلَّا لقليلين، من قبيل زيارتها إلى صديقة طفولة عنايات، الممثلة المصرية الأيقونة نادية لطفى.

نشأت عنايات فى أُسرة مُحبِّة وكانت مقربة مِن والدها على وجه الخصوص، لكنها صارعت الاكتئاب معظم حياتها. كان لديها شغفٌ بالرسم البسيط بالأقلام وبالألوان الزيتية، لكنها توقفت عن الدراسة قبل أن تبلغ سن التاسعة عشرة، لتتزوج رجلًا مِن عائلة ثرية. كان الزواج عذابًا مُضنيًا وسرعان ما انتهى إلى طلاقٍ مرير.  فى كتاب إيمان مرسال، نقرأ تدوينة من دفاتر يوميات عنايات تعود لسنة 1962، تقبضُ على ألمها: ««أنا لا أعنى شيئًا عند أحد... إذا ضعتُ أو وُجدتُ سيَّان. وجودى كَعَدمى، أنا إن وجدتُ أو لم أوجد لن تهتز الدُنيا. خطاى لا تترك أثرًا وكأننى أمشى على الماء، ووجودى لا يراه أحدٌ كأننى كائن غير مرئى».

السبب الذى دفعَ عنايات إلى الانتحار غير مؤكَّد. بناءً على روايتها أنتجَ فيلم سينمائى تجارى ومسلسل إذاعى، أحبطَ كلاهما إيمان وابنة أخت عنايات. شعرتا، بالإضافة إلى مشكلات أخرى فى العملين، أنهما قد محيا جوهر الرواية، مكتفين بالتركيز على عناصر الحبكة.

خلال الأشهر الأخير مِن حياة عنايات الزيَّات، عاشت فى شقة بناها والدها من أجلها فى الطابق الثانى من الفيلا الخاصة بهم فى حى الدقى الراقى بالقاهرة. كتبت على آلة كاتبة ماركة أوبتيما اشترتها حديثًا، وسعت لنشر كتابها. فى الوقت نفسه خسرت قضية حضانة ابنها أمام المحكمة. 

بعد أن تلقَّت والدتها مكالمة من دار النشر تخبرهم بأنَّ المخطوط رُفض، جزَّت عنايات شعرها وحبست نفسها فى شقتها. وبحسب إيمان مرسال، التى تحدثت إلى شقيقة الكاتبة وإلى أعز صديقاتها، فى اليوم التالى مباشرة عُثرَ عليها ميتة. 

بدا أنَّ كونها جزءًا مِن الطبقة العُليا حدَّ مِن إمكاناتها وخِياراتها- أوضحت إيمان- كما لو أنَّ المجتمع قد خذلها بشدة لدرجة لم يتبق معها غير الموت شكلًا للاحتجاج. 

«بدت فكرة أن تقتل امرأة شابة نفسها – شابة عندها ابن وأب وصديقة – مِن أجل كتاب، مأساة حقيقية، ولكنها مأساة ساحرة». هكذا كتبت إيمان فى كتابها. «تخيلتُها تتعلَّم النحوَ والصرف وتضع كل ما تريد قوله فى رواية، وترفض أن تنشرها على حسابها». 

كان لدى إيمان مرسال الكثير من الأسئلة التى حاولت الإجابة عنها خلال رحلة بحث استحوذت عليها سنواتٍ طويلة، لكن نيتها الأساسية لم تكن قط كتابة سيرة أو كتاب تاريخ، كما صرَّحت.

قالت: «كان سرد قصة البحث عن عنايات هو طريقتى فى قراءة حياتها وليس عرض حياتها. حلمتُ بأن أحكى قصتنا معًا، قصتى، وقصتها، هذا التقاطع بيننا.

لم يكن الماضى مَجيدًا كما نظن، إنها قصة جراح هذا الماضى، الجراح الجماعية والفردية». 

حين أتمَّت إيمان هذا الكتاب، كافحت ضد الخواء والحزن اللذين ترددا مثل صدى لخواء عنايات وحزنها. قالت: «شعرت كأنَّ صديقة لى ماتت، لقد كانت حالة غريبة من الحِداد».

نشر فى النيويورك تايمز، بتاريخ 31 مارس 2024
عايدة عَلمي: كاتبة وصحافية مغربية تساهم بكتابتها فى التايمز من العام 2011. تعيش بين الرباط وباريس. 
هذه الكلمة، سامحنى غير موجودة فى الأصل العربى من الكتاب. هامش من المترجم.