آخر صفحة

حامد عز الدين يكتب: فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين

حامد عز الدين
حامد عز الدين

في إعراب الآية الكريمة: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، لمن يعرف اللغة العربية رد على هؤلاء «المحدثين» الذين شككوا أن يكون المقصود في الذكر في الآية هو القرآن الكريم.  ذلك أن هذه الآية إنما وردت وكأنها رد على المشركين الذين رموا محمدا صلى الله عليه وسلم  بالجنون لأنه نسب القرآن الكريم لله سبحانه وتعالى: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» «الحجر: 6»، فجاءت تحمل تأكيدا مضاعفا، فـ«إن» هي حرف توكيد مشبه بالفعل و«نا» مدعم بأن وأصله إننا.

ثم يتلوه تأكيد استخدام نحن التي ضمير متصل في محل نصب توكيد للضمير «نا»، ثم يعيد المولي التأكيد مرة بعد واو العطف «إنا له لحافظون» بطريقتين باستخدام إن مجددا للتوكيد وباستخدام حرف اللام المرتبط بخبر إن «حافظون».

وإذا كانت الآية الكريمة بتأكيدها غير القابل للنقاش، قد أسكتت المشركين الذين كانوا أهل بلاغة فكان على الحداثيين أن يصمتوا لكنهم لم يفعلوا. كما أن رد المولى سبحانه وتعالى جاء بهذا التوكيد القاطع الدالّ عَلى كمالِ الكبرياءِ والجلالة وعلى فخامة شأنِ التنزيل، وجاء قوله تعالى: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» بالجملة الاسمية للدلالة على دوام الحِفْظ له واستمراره، وأفادت الآية الكريمة أنّ الله -سبحانه- هو الذي يتولّى حِفْظه من كلّ عبث، وصيانته من كلّ سوء.

وهذا هو الدليل القاطع على أنه منزّل من عند الله، فليحاولوا أن يبدّلوا من صورته، أو يدسّوا عليه ما ليس منه؛ فإنهم لو فعلوا لكان لهم من ذلك حُجّة على أنه ليس من عند الله لكنهم ما فعلوا !. وقد حفظ اللهُ القرآنَ الكريم، هذا الحفظ الربانيّ، الذي أبعدَ كلَّ ريبة أو شكّ في هذا الكتاب، فلم تمسسه يدٌ بسوء، على كثرة الأيدي التي حاولت التحريف والتعديل، فردّها الله، وأبطل كيدها وتدبيرها. 

فالرد على قول المحدثين إن الذكر أمر مختلف عن القرآن الكريم - هو تدليس مضحك - والدليل هو أن القرآن الكريم أطلق على القرآن «الذكر» ومن ذلك: قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ < لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» «فصلت: 41- 42»، والذِّكْر هنا القرآن أيضًا في قول الجميع. ومن معاني الآية الكريمة أنه ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منزل من ربّ العالمين، وأنه محفوظ من أن يُنقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يُزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. 

ومنه أيضًا قوله تعالى: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ < فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «البروج: 21- 22»، ووجه الدلالة في ذلك أن قوله: «مَحْفُوظ»، فيه قراءتان متواترتان؛ إحداهما وهي قراءة الأكثرين: «مَحْفُوظٍ» بالجر على أنه صفة «لَوْحٍ»، وحِفْظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حِفْظ القرآن، والقراءة الأخرى وهي متواترة أيضًا -قراءة نافع- برفع «مَحْفُوظٌ» على أنه صفة للقرآن، أي: هو قرآنٌ مجيدٌ محفوظٌ، وهذا صريح في الدلالة على حِفظ الله القرآنَ المجيد. وأُطلق على القرآن «الذِّكْر» لأوجه؛ منها أولا ما فيه من الموجبات للتذَكُّر والاعتبار وثانيا لأنه أيضًا يُذكر فيه أخبار الأوّلِين» وثالثا لأنه شرف لمن تمسّكَ به، ينال به صاحبه ذِكرًا جميلًا، وثناءً حسنًا كما قال -جلّ ذِكره-: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» «الزخرف: 44» . 

وقد ذهب أكثرُ المفسِّرين إلى أنّ الضمير في قوله تعالى: «وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» يعود على القرآن الكريم، لكن فريقا  العلماء ذهب إلى أن الضمير يعود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي: يحفظه من أذاكم، ويحوطه من مَكْرِكُم، كما قال تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» «المائدة: 67». وقول الأكثرين -وهو أنّ الضمير عائد إلى القرآن الكريم- أَوْلَى وأرجح وأشهر وأظهر؛ لأنّ المقام يقتضيه، وظاهر السياق يدلّ عليه، ولأنه المصرّح به في الآية الكريمة بكلمة: «الذِّكْرَ»، ومن المعلوم أنّ عود الضمير على مذكور أَوْلَى من عوده على غير مذكور. وجدير بالذكر أنّ مَنْ قال: إنّ الضمير عائد على الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يَنْفِ أحدٌ منهم حِفْظَ الله القرآنَ الكريم؛ لتضافر الأدلة على ذلك، وأيضًا فإنّ حِفظ الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي حِفْظ القرآن الذي نزل عليه، وجعله حجّته، وآية نبوّته الكبرى، ومعجزته العظمى . 

في الأسبوع المقبل نواصل بمشيئة الله إن كان في العمر بقية تدبر كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.