خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي| «والحرمات قصاص»

محمد متولي الشعراوي
محمد متولي الشعراوي

يقول  الشيخ الشعراوي فى خواطره حول الآية 194 من سورة البقرة:» الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» إن المقصود هو أنه إذا ما قاتلوكم فى الشهر الحرام فقاتلوهم فى الشهر الحرام، فإذا ما اعتدوا على حرمة زمان فالقصاص يكون فى زمان مثله، وإن اعتدوا فى حرمة مكان يكون القصاص بحرمة مكان مثله، وإذا كان الاعتداء بحرمة إحرام، يكون الرد بحرمة إحرام مثله؛ لأن القصاص هو أن تأخذ للمظلوم مثل ما فعل الظالم.

إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يخفف وقع الأمر على المؤمنين الذين رُدوا عام الحديبية فى ذى القعدة سنة ست من الهجرة وأعادهم المشركون إلى المدينة، فاقتص الله منهم بأن أعادهم فى ذى القعدة فى العام القابل فى السنة السابعة من الهجرة، فإن كانوا قد مُنعوا فى الشهر الحرام فقد أراد الله أن يعودوا لزيارة البيت فى الشهر الحرام فى الزمان نفسه.

وقوله الحق: «والحرمات قِصَاصٌ» يقتضى منا أن نسأل: كيف يكون ذلك؟ وما هو الشيء الحرام؟ إن الشيء الحرام هو ما يُحظر هتكه، والشيء الحلال هو المُطلق والمأذون فيه. فهل يعنى ذلك أن الذى يقوم بعمل حرام نقتص منه بعمل مماثل؟

هل إذا زنا رجل بامرأة نقول له نقتص منك بالزنى فيك؟ لا. إن القصاص فى الحرمات لا يكون إلا فى المأذون به وكذلك إذا سرق منى إنسان مالاً وليس لدى بينة، لكنى مقتنع بأنه هو الذى سرق هل أقتص منه بأن أسرق منه؟ لا، إن القصاص إنما يكون فى الأمر المعروف الواضح، أما الأمر المختفى فلا يمكن أن نقتص منه بمثل ما فعل.

لكن هب أن أحد الأقارب ممَّنْ تجب نفقتهم عليك وامتنعت أنت عن النفقة على هذا الإنسان، وهذا أمر محرم عليك، وما دام الأمر علنياً فله أن يأخذ من مالك فيأكل وتكون المسألة قصاصاً. وهب أن زوجتك تشتكى من بخلك وتقصيرك، كما (اشتكت هند زوجة أبى سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بخل زوجها فقال لها: خذى من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك).

ومثال آخر، هب أن ضيفاً بمنزلك ورفضت أن تكرمه، وانتهز فرصة بعدك عن المكان الذى يجلس فيه ثم تناول شيئاً وأكله. لا يكون تعدياً عليك ما لم يكن داخلاً فى محرم آخر، وبعد ذلك يترك الحقُ لولى الأمر تنظيم هذه الأمور حتى لا تصير المسائل إلى الفوضى.

وقوله الحق: «فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ» يدعونا إلى اليقظة حتى لا يخدعنا أحد ويدعى الإيمان وهو يريد الانتقام. ويجب أن نتمثل قول الشاعر:
إن عادت العقرب عدنا لها ** وكانت النعل لها حاضرة

ويختم الحق الآية الكريمة بقوله: «واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين» أى لا تظنوا أن الله ملّكَكُم فيهم شيئاً، بل أنتم وهم مملوكون جميعاً لله. ويقول الحق من بعد ذلك فى الآية 195:»وَأَنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»

وهذه الآية جاءت بعد آيات القتال، ومعناها: أعدوا أنفسكم للقتال فى سبيل الله.

وقوله الحق: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة» يقتضى منا أن نعرف أن كلمة (تهلكة) على وزن تَفْعُله ولا نظير لها فى اللغة العربية إلا هذا اللفظ، لا يوجد على وزن تَفْعُله فى اللغة العربية سوى كلمة (تهْلُكة)، والتهلكة هى الهلاك، والهلاك هو خروج الشيء عن حال إصلاحه بحيث لا يُدرى أين يذهب، ومثال ذلك هلاك الإنسان يكون بخروج روحه. والحق يقول: «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ» «الأنفال: 42».