إنها مصر

ليس ربيعاً بل جحيم!

كرم جبر
كرم جبر

الربيع العربى لم يكن يوماً ربيعاً بل جحيم، لم تهب نسائمه على دول وشعوب المنطقة، بل ملأ فراغ سقوط الأنظمة العربية، بالجماعات المسلحة التي تصارعت على السلطة، وفتت الدول الوطنية، وأحلَّ محلها دعاوى تقسيم الدول.
وتلقى "مفهوم الدولة الوطنية" ضربات قاصمة، ملأت الفراغ بفتن وصراعات وتناحرات عرقية ودينية وطائفية مزقت الهوية الوطنية والعَلَم الذى يحتوى الجميع تحت مظلته، وسعى كل فريق إلى اقتطاع جزء من جسد الدولة وتمزيق عوامل قوتها.
ولأن من يقوم بتحضير "العفريت" لا ينجح دائماً فى أن يصرفه؛ صارت الديمقراطية المزعومة التى جاء بها الغرب لملء الفراغ، سبيلاً للفوضى والصراع على السلطة والنزاعات المسلحة.
الرئيس الأمريكى ايزنهاور الذى جاء للحكم عام 1952 هو صاحب نظرية ملء الفراغ، وكانت سياسته تقوم على استخدام القوة العسكرية فى الحالات التى يراها ضرورية لحماية أى دولة فى الشرق الأوسط من خطر الشيوعية، وربط برامج المساعدات العسكرية الاقتصادية لخدمة المصالح الأمريكية.
بعد انسحاب القوى الاستعمارية التقليدية من منطقة الشرق الأوسط فى مرحلة الخمسينيات والستينيات، فعَّلت الولايات المتحدة نظرية "ملء الفراغ" للوقوف أمام الزحف الشيوعي، الذى كان يحلم بموضع قدم فى المناطق الدافئة.
وكان الرئيس جمال عبد الناصر معارضاً بشدة لهذه النظرية، ورأى أنها ترمى إلى قمع نضال دول المنطقة، وخروجها من حقبة الاستعمار الأوروبي، إلى عصر الهيمنة الأمريكية.
ورغم ذلك ظلت نظرية ملء الفراغ تتحكم فى مصير العديد من دول المنطقة، حتى جاء ما يسمى الربيع العربى بتخطيط أمريكي، فسقطت أنظمة وتهاوت دول، ولم يظهر ما يملأ الفراغ، إلا جماعات الإسلام السياسي، التى وجدت الإرهاب سبيلها لتحقيق أهدافها.
أطاحت رياح الربيع العربى بالجيوش العربية فى الدول المستهدفة، فتهاوت مثل أوراق الخريف، ولم يملأ فراغها إلا الجماعات الإرهابية، التى استخدمت أساليب الميليشيات والعصابات المسلحة ضد دولها وشعوبها، وصار الهدف ليس التحرر واستعادة قوة الدولة، وإنما الصراع الدموى القاتل من أجل "سلطة" معجونة بالدماء والفتن.
وكان النموذج الأكثر بشاعة لنظرية "ملء الفراغ" ما حدث فى أفغانستان، فبعد احتلال أمريكى دام 20 عاماً، لم تنجح الولايات المتحدة فى إيجاد من يشغل الفراغ السياسي، فتغلغلت طالبان وازداد نفوذها وأمسكت تلابيب الدولة والمجتمع، فكان السقوط سريعاً ودرامياً، مثل بيوت من الرمال جرفتها أمواج البحر العاتية.
وأسفرت تجارب الأحداث وفقاً لنظرية "ملء الفراغ "عن حقائق دامغة، أهمها أن المستعمر لا يستطيع خلق نظام سياسى فى الدول المحتلة، يملأ الفراغ بعد رحيله، بل يتركها كيانات هشة لا تقوى على الصمود.
لا يملأ الفراغ إلا تعظيم الدولة الوطنية بكل مكوناتها، للحفاظ على مؤسساتها وكيانها وحمايتها من العواصف والأعاصير.