سلسلة «كلمات ربي وآياته في القرآن والكون».. كلمة {أَنْف}

الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا
الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا

56-{أَنْف} للشَّمّ:

تواصل بوابة أخبار اليوم نشر سلسلة كلمات ربي وآياته في القرآن والكون، للأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا (عضو مجمع اللغة العربية)، وحلقة اليوم عن {أَنْف} للشَّمّ

 

قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (سورة المائدة: 45).

ورد ذكر الأنف في هذه الآية الكريمة مع العين والأذن والسن على وجه التخصيص لأنها من أهم الجوارح في جسم الإنسان وأكثرها حساسية، حيث إن تعرضها للتلف أو الإصابة أو الفقدان يعرض صاحبها لنسبة كبيرة من العجز وعدم القدرة على السعي وممارسة أمور الحياة الطبيعية.

ويعتبر الأنف عضو الشم عند الإنسان، وهو عضو مزدوج كالعينين والأذنين تمامًا، كما أنه يشكل الطريق الأساسي لعبور الهواء الجوي خلال عملية التنفس التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يدرك الروائح المختلفة التي يحملها معه هذا الهواء، وتكون تلك الروائح في صورة أبخرة أو غازات تتصاعد من مختلف الأشياء التي تحيط بنا، أو التي نتداولها بين أيدينا، ولا تستطيع "الخلايا الشمّيّة" إدراك تلك الغازات أو الأبخرة إلا بعد ذوبانها في الغشاء المخاطي المبطن للأنف، أو التجويفات الأنفية، وتنتقل بعد ذلك تلك الإحساسات الشميّة عن طريق "عصب الشم" إلى المراكز المختصة في مخ الإنسان، حيث يمكن عندئذ إدراكها والتمييز بينها: فهناك على سبيل المثال، الروائح الذكية التي تنبعث من الأزهار والعطور وغيرها مما يستطيبه الإنسان، كما أن هناك أيضًا الروائح الكريهة والنفاذة التي تتصاعد من البرك والمستنقعات والمياه الراكدة، أو تندفع من محركات الديزل ومداخن المصانع، مثل أبخرة الكبريت المحترق وغيرها من المواد الكيميائية الطيارة.

وقد أثبت العلم أهمية الغدد المخاطية في عملية الشم، حيث إنها تقوم بإفراز كميات من السائل المخاطي الذي يتكون أساسًا من الماء بنسبة 96٪، وقد قدر العلماء أن الأنف يفرز يوميًّا نحو لتر من هذا السائل المخاطي المذيب للمواد ذات الروائح المختلفة. ومن المعروف أن الإنسان يفقد حاسة الشم تمامًا عندما يصاب بالزكام، إذ ينتفخ الغشاء المخاطي في هذه الحالة ويمنع الروائح الغازية من الوصول إلى الخلايا الشميّة الموجودة داخل الأنف.

أما ما يعرف بالجيوب الأنفية فهي فراغات في العظام التي تجاور الأنف، في منطقة الوجه. ويحيط بالأنف أربعة أزواج من الجيوب الأنفية: اثنان في عظام الفك العلوي، أسفل محجري العينين، واثنان في عظام الجبهة، واثنان أعلى حاجز الأنف، واثنان إلى الداخل بين محجري العينين. وهذه الجيوب جميعها مبطنة بغشاء مخاطي يشبه الغشاء المخاطي المبطن للأنف. وكل جيب يفتح في تجويف الأنف من خلال ثقب ضيق.

ويختلف حجم هذه الجيوب الأنفية، وكذلك شكلها، من شخص إلى آخر. كذلك يختلف حجمها تبعًا للعمر، فهي صغيرة في الطفل الوليد، ويكبر حجمها تدريجيًّا حتى تصل إلى أكبر حجم لها بعد اكتمال بروز الأسنان الدائمة.

وللجيوب الأنفية وظائف مهمة، فهي تشارك الأنف في تمييز الروائح المختلفة، حيث إن الغشاء المخاطي المبطن للجيوب الأنفية متَّسع السطح وقادر على الإحساس بالرائحة. ومن الوظائف المهمة للجيوب الأنفية أنها تضخّم الصوت وذلك نتيجة للرنين الناشئ عن وجود هذه الفراغات حول الأنف، تمامًا كما هي الحال في الآلات الموسيقية الوترية كالعود والكمان، وكذلك الحال في الطبول، فكلما كبر حجم الفراغ الهوائي داخل الطبل، كان الصوت ضخمًا نتيجة للرنين.

وعندما تلتهب الأغشية المخاطية المبطنة للأنف، يمتد هذا الالتهاب إلى أغشية الجيوب الأنفية، وتعرف هذه الحالة بالتهاب الجيوب الأنفية. ونتيجة للالتهاب تفرز الأغشية المخاطية كميات كبيرة من المخاط، ولأن هذا المخاط يكون لزجًا، ونظرًا لضيق فتحات الجيوب الأنفية المتصلة بالأنف، فإن الجيوب الأنفية تمتلئ بهذه الإفرازات. كذلك تتورم الأغشية المخاطية المبطنة للأنف والجيوب الأنفية، وينشأ عن ذلك انسداد هذه الجيوب وزيادة تجمع الإفرازات المخاطية بها وتراكمها، ويؤدي إلى صداع شديد يختلف مكانه في الرأس باختلاف الجيوب المصابة.

وينشأ التهاب الجيوب الأنفية نتيجة للإصابة بالفيروسات التي تصيب الجهاز التنفسي، كما هي الحال في نزلات البرد، أو نتيجة للحساسية للأتربة الموجودة في الهواء، أو نتيجة لحبوب اللقاح الموجودة في أزهار النباتات على سبيل المثال.

والتهاب الجيوب الأنفيّة الحاد ربما يؤدي إلى التهاب الأذن الوسطى وانسداد قناة السمع، أما الالتهاب المزمن فقد يؤدي إلى تورم الأغشية المخاطية المبطنة للجيوب وبروزها إلى داخل تجويف الأنف، وغالبًا ما تحتاج في علاجها إلى تدخل جراحي.

وينشأ عن الجيوب الأنفية الملتهبة تغير ملحوظ في الصوت، وتقل قدرة المصاب على التعرف على الروائح بحيث لا يستطيع تمييز رائحة العطور مثلاً، وكذلك تقل قدرته على تذوق طعم المأكولات، لأن الإحساس بطعم الأشياء هو مزيج من الإحساس بالطعم والإحساس بالرائحة.

ومن الجدير بالذكر أن الله - سبحانه وتعالى - خلق الأنف بتركيب محدد يهيؤه للقيام بوظائف عديدة، منها تكييف الهواء الداخل إلى الجهاز التنفسي، حيث إن غشاءه المخاطي المبطن له يحتوي على كمية كبيرة من الأوعية الدموية، بالإضافة إلى وجود زوائد ذات نسيج إسفنجي تحتوي على كمية أكبر من الأوعية الدموية، وحينما يمر الهواء الداخل للأنف على هذه الكمية الهائلة من الأوعية الدموية تتحول درجة حرارة الهواء أيًّا كانت إلى درجة الحرارة المناسبة لجميع التفاعلات الكيميائية والبيولوجية، ومقدارها 37 درجة مئوية. كذلك يقوم السائل المخاطي بالتقاط حبيبات الأتربة والأجسام الغريبة الموجودة بالهواء لما أودع الله فيه من صفة اللزوجة، بالإضافة إلى وجود الأنزيمات القاتلة للميكروبات التي تحاول أن تغزو الأنف.

ولا تقتصر حاسة الشم على الإنسان وحده، بل إن هناك من الحيوانات ما يتفوق عليه بصورة ملحوظة في هذا المجال، فقدرة الكلاب مثلاً على تمييز الروائح المختلفة من المعجزات الحقيقية التي لا يستطيع الإنسان بعلمه أن يقدم تفسيرًا مقبولاً لها، وخير دليل على ذلك هو ما يشاهد في كلاب الصيد أو في الكلاب البوليسية التي تستخدم في التعرف على الجناة والمجرمين. وفي الغابات أيضًا – حيث يكون الصراع رهيبًا بين الحيوانات المفترسة والفرائس التي تتغذى عليها – تلعب حاسة الشم دورًا رئيسيًّا في حياة هذه الحيوانات على اختلاف أنواعها. ومن المتعارف عليه لدى الصيادين الذين يخرجون إلى الغابات والأدغال لصيد الحيوانات البرية ألاّ يتواجدوا في اتجاه الريح الذي يهب عليهم حتى لا يحمل الهواء رائحتهم إلى تلك الحيوانات، فتلوذ بالفرار في حالة آكلات العشب كالغزلان والزراف أو تتأهب للهجوم عليهم إن كانت من الوحوش كالأسود والنمور وغيرها. إن خاصية الشم هي في الواقع من الآيات المعجزة في عالم الحواس.