الدكتورة سارة فوزي تكتب: «جودر» و«الحشاشين».. وحلم الإنتاج الدولي المشترك بالجمهورية الثانية

الدكتورة سارة فوزي
الدكتورة سارة فوزي

 خطف كل من مسلسلي «جودر» و«الحشاشين» أنظار المشاهدين ليس فقط في عالمناالعربي، ولكن أن نجد أصداءً عالميةً لهذين المسلسلين في الإعلام السويدي والروسي والإيراني أيضا، وأن يكون لهما مريديهم من الجمهور العالمي؛ أمر يبعث على الفخر والتفكير في المرحلة اللاحقة، فماذا بعد هذين الإنتاجين الضخمين؟

البناء على النجاح هو سمة الجمهورية الجديدة، والبناء على نجاح هذين المسلسلين لاستكمال تطوير الدراما التاريخية و«دراما الفانتازيا» والأساطير التي تستقطب عشاق الشاشة الصغيرة هو أمر حتمي، فدراما «المتحدة» حاليا جعلت لنا موطئ قدم في الدراما العالمية، حينما نجد مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة عريقة مثل شيكاغو يشيد بـ«الحشاشين» قصة وإنتاجًا، فنحن أمام تحدٍ كبيرٍ إما نستغله أو سنخسر الكثير.

كل ذلك يدفعني للحديث عن حلم الإنتاج الدولي المشترك، لا أتحدث عن شرائنا لحقوق تحويل الأعمال الأجنبية لقصص عربية؛ فهذا الأمر قد ينجح تارة وقد يفشل تارة أخرى، لكني أتحدث عن أن تكون قوتنا الدرامية الناعمة وشركتنا الوطنية وهى «المتحدة للخدمات الإعلامية» قادرة على اختراق السوق العالمي ترفيهيًا ودراميًا، ذلك لن يتأتى إلا من خلال الإنتاج المشترك بيننا وبين دول تربطنا بها علاقات طيبة، والأهم أن هذه الدول هى أيضا باتت لاعبًا أساسيًا مؤثرًا في صناعة الدراما والترفيه.

في معرض الكتاب الدولي الأخير، كانت النرويج ضيف شرف المعرض، ووجدت عناوين لروايات نرويجية وسويدية عديدة مترجمة للعربية، يتخطفها آلاف الشباب المصريين بل وجدت مؤلفيها أيضا يحضرون حفلات التوقيع بمصر بل الأجمل من ذلك وجدت ذكرًا لمصر وأحداثًا كثيرة بهذه الروايات وعناوين تلتف حول مصر وحضارتها وشخصيتها بأعمدتها السبعة. 

مما يدفعني للحديث عن الدراما «الإسكندنافية« (النرويج، والسويد، والدانمارك)، التي أصبحتُ من متابعيها، فلديهم مجموعة متميزة من الدراما السياسية والبوليسية والجريمة في نمط درامي خاص وهو «Nordic Noir»  أو الدراما القائمة على حل جريمة مركبة، ولا اخفيكم سرًا هذه الدراما أصبحت تستقطب الجمهور العالمي بتفردها في عناصر الإخراج والحبكة المعقدة وتميز الإضاءة والمؤثرات ومؤخرا بمصر، شاهدنا أعمالًا درامية  مصرية خالصة متميزة تتقاطع مع هذا النمط، فتساءلت: لماذا لا نفكر في الإنتاج المشترك بيننا وبينهم؟

الإنتاج المشترك يساعد على تبادل الخبرات الفنية والرؤى الإبداعية، كما يثري كثيرًا العمل الفني ويعمل على تجسير الفجوة بين المجتمعات مترامية الجغرافيا، ويجعلها تسكتشف الآخر في مرآة لواقعه، والأهم أنه يساعد على ترويج منتجنا الدرامي المصري عالميًا ويفتح لنا أبواب المسابقات الدولية سينمائيًا وتليفزيونيًا.

الإنتاج الدولي المشترك هو ما ساعد دولًا عربية مثل: المغرب والأردن والإمارات، على أن تكون صناعة وتصوير الأفلام بها مصدرًا من مصادر الدخل القومي والترويج السياحي، والأهم جلب العملة الصعبة للبلاد، فالإنتاج الدولي المشترك هو الذي ساعد أفلامًا لبنانية عديدة أن تصل لـ«الأوسكار» ذاته.

تغيرت البوصلة الدرامية العالمية وتوجهت إلى دول مثل: إسبانيا وبولندا وروسيا وشرق أوروبا وكوريا الجنوبية، حيث باتت تلك الدول تقدم أعمالًا درامية تشابه مستوى أعمالنا من حيث التقنيات الإنتاجية والإخراجية، فضلا عن كونها شعوبًا ترحب بتعاوننا معها وتشاهد مسلسلاتنا المصرية، فالمنصات الرقمية وعمليات الدوبلاج والترجمة الآنية على الشاشة، سهلت اختراق الشعوب فكرًا ووجدانًا وقلبًا وتخطت حواجز الجغرافيا والمتغيرات الجيوسياسية.

العالم بحاجة أن يرى مصر الجديدة، بعاصمتها «الكوزموبوليتانية»  Cosmopolitanism الجديدة بمبانيها الشاهقة وحداثتها بعيدا عن الصحراء والجِمال والصورة النمطية المعهودة عن مصر في الدراما الأمريكية الركيكة والمدفوعة.

يساعد الإنتاج الدولي المشترك، على إدارة «الصورة الذهنية» لمصرنا الحبيبة في الجمهورية الجديدة ثقافيًا وسياحيًا بل يعمل كأداة لتشجيع سياحة الأفلام واستقطاب السياح في جولات سياحية بمدن مصرية صُورت بها عدة أفلام ومسلسلات رائجة أو جارٍ تصويرها.

فمسلسلات مثل: صراع العروش وآل التنين أسهمت في إحداث طفرة ونقلة نوعية في السياحة بدول عديدة لم تكن ذات رواج سياحي من بينها كرواتيا وآيسلندا وآيرلندا، فأعداد السياح الوافدين إلى هذه الدول تضاعفت إلى 5 أضعاف عقب نجاح المسلسلات والأفلام التي صُورت بها، حيث يأخذ المرشدون السياحيون، الأفواج السياحية في جولات تتبع مسارات أبطال العمل الدرامي وفي جولات السير الإرشادية المجانية التي تقدم معلومات تاريخية وتفاصيل حقيقية حول هذه المدن الخلابة التي أحبها الجمهور في أعمالهم السينمائية والتليفزيونية المفضلة وحتى إن كانت أسطورية.

نحتاج إلى مثل هذه الاستراتيجيات المبدعة في مصر بعيدًا عن التشددات ودوامات التصاريح.. نحتاج إلى سرعة إصدار القوانين الميسرة لتصوير الأعمال العالمية المشتركة بمصر بالتعاون مع الشركة المتحدة والجهات والوزارات المعنية، كما نحتاج إلى إعادة إنعاش الصحاري والوديان والمعابد والسواحل والمدن المصرية كـ(العلمين ورأس الحكمة وسيناء) التي تزخر بالعديد من  الأقاصيص الأثرية والتاريخية التي تدفعنا لاكتشافها والغوص في تفاصيلها وحكاياتها الحقيقية والسينمائية، بل والتخيل لبعض الوقت أننا من أبطال العمل الذين مروا يوماً بها ونسير على بوصلة نجمهم.. نحتاج إلى تشكيل أنماط سياحية فريدة إلى جانب سياحة الآثار والأماكن التاريخية.

‫للسينما والدراما سحر خاص، يحول ذرة رمال إلى جنة مدهشة في نظر المريدين، فيكفي أن تظهر هذه الجنة في عمل درامي يحقق شعبية، وستتوالى الزيارات والأسفار إليها، فالتصوير بالمواقع التاريخية والأثرية والسياحية لأية دولة هو وسيلة من وسائل الترويج السريع والتسويق لمناطق معينة على خريطة السياحة العالمية كما فعلت دول أخرى من قبل.

مصرنا الجديدة لديها التاريخ والمستقبل، لديها أعمدتها السبعة بحضاراتها الفرعونية والقبطية والإسلامية واليونانية والرومانية والأفريقية والعربية.. كل ذلك يشكل تمازجًا ثقافيًا مركبًا وفريدًا يطرح إشكاليات درامية ثرية تجذب الغرب والشرق لتناولها والاحتفاء بها.. نعم ! نريد دراما تاريخية وسير ذاتية وملحمية تتحدث عن شخصيات رومانية ويونانية عشقت بلدنا، فلا نريد أن نَّقُصُّ أسطورة دولتنا وحكاياتها من خلال كاتب غربي أو عربي يضعنا في صحاري أو يقنع الرأي العام الدولي أن بناة الأهرام كانوا من الفضائيين، أو ينمطنا كبلطجية نتحدث بكلمات لها سجع طيلة الوقت. نريد أن نسهم في سرد حكايتنا، وأن نكون ركنًا أساسيًا بها، أن نعرض قضايانا وحقوقنا وأحلامنا وطموحاتنا وأن يستمع الجميع لنا بـ«قوتنا الدرامية الناعمة».


نريد من خلال الإنتاج الدولي المشترك، أن نمرر للعالم رسالتنا الداعية للسلام والتعايش وحب الخير لأشقائنا الذين لا نتخلى عنهم مطلقا، وأن نريهم الجمال في بلدنا بعيدًا عن شركات صهيونية تروج لـ«الإسلاموبيا»  وتخيف الغرب من كل ما هو إسلامي حتى لو كان نقشًا على حجر.. أن نعيد تقديم صورتنا الحقيقية للآخر بمعزل عن التشدد والتطرف، بمنأى عن المتأسلمين وأسلحتهم وتغييرهم لديننا الذي ارتضاه الله لنا ورغبتهم في الانغلاق والانسلاخ من وسطيتنا المعتدلة فكرًا ودينًا وعلمًا.

هنالك حكمة لقدمائنا المصريين أرددها على نفسي كثيرا: «ليست الحكمة أن تعرف الطريق فحسب بل أن تسير به وتهدي العالم إليه»، مشى بنا «جودر، والحشاشين» أشواطًا درامية للأمام، وحان الوقت أن نهدي العالم إلينا، وأن نعيد تذكيره بـ«هوليوود الشرق»، ونجعله ينصت لقوتنا الناعمة، وبفكرنا المستنير، كي يرى العالم انفتاحنا الإبداعي في الجمهورية الثانية.. لا يجدينا نفعا أن نخاطب أنفسنا ولا محيطنا فحسب، بل الانطلاقة للإنتاج الدولي المشترك مقتضى المرحلة لاستكمال ركائن الجمهورية الجديدة التي تنشر الجمال والإبداع والخير، وتحافظ على هويتنا المصرية بمقوماتها، وتسوق لها بكل السبل لدى الأصدقاء وحتى الأعداء.