أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر: الصيام علاج للفراغ الروحي عند الإنسان المعاصر

د. محمد عباس أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر
د. محمد عباس أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر

لا تقف فوائد الصوم عند الصحة الجسدية، بل تتعدى إلى الأنوار الروحية التى تغمر الصائم وتضفى عليه تجليات نورانية تشرق فى روحه.. يقول د. محمد عباس عبد الرحمن المغنى، أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية، كلية أصول الدين بالقاهرة، جامعة الأزهر، إن بركات شهر رمضان قد أهلت، وأفضال ربنا علينا فيه قد تجلت، ونفحاته قد أطلت  فهو شهر الروحانيات، حيث تتجمع فيه للروح أغذية متنوعة من الصيام، والقيام، والقرآن، والذكر، والتى تعمل على رفع مستوى الإيمان للمسلم حتى يصير كالملائكة، فيترفع على شهواته التي كادت أن تفتك به طوال العام، ليصل بروحه إلى عنان السماء، ويتخلص فيه من ربقة عبودية الجسد بحلاوة الإيمان، ولذة العبادات، فتسعد الروح، وتتنقل فى درجات عالم الأرواح فتسمو بالحنين إلى الجنات، وقد تخلصت من أسر الشهوات، وتلاعب الشياطين، وعلائق الهوى.

خصائص رمضان
ويتابع د. محمد عباس أنه من روحانيات شهر رمضان أن الله فضّله على سائر الشهور بخصائص لم تكن لشهر سواه، منها نزول القرآن الكريم، قال تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ»، فكانت البداية وكانت الهداية لاتصال السماء بالأرض بنزول القرآن الكريم؛ ومنها أنه شهر تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران وتصفد فيه الشياطين؛ ومنها أنه شهر إجابة الدعاء، فقد جاءت آية الدعاء متوسطة لآيات الصيام «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ» إشارة إلى أن للصائم دعوة لا ترد، ومنها أنه شهر المغفرة وتكفير السيئات، حيث تجمعت فيه مكفرات الذنوب الثلاثة وهى الصيام، يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وعن القيام يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وعن قيام ليلة القدر يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وهذه لا تكون إلا فى رمضان، ليخرج المسلم من رمضان كيوم ولدته أمه ليبدأ صفحة إيمانية مع الله تعالى.

الروح والمادة!
وأكد د. عباس أن الله خلق الإنسان مكونًا من عنصرين روح ومادة، فالجانب المادى فى الإنسان هو الخلق من التراب والماء والطين، والجانب الروحى فى الإنسان هو الروح المنفوخة من روح الله؛ فالروح سر من أسرار الله تعالى الذى تصير به المادة الآدمية كائنًا حيا وبشرًا سويًّا، والروح هى فيض من الله تعالى، من خلقه وإيجاده، وليست جزءًا من روح الله، إنما أضيفت لله عز وجل تشريفًا، وتخصيصًا، وتفضلًا، ولولا الروح لما كان الإنسان، ولما كان الكيان الإنساني. وقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يكون الجسد الإنسانى المادى مبدؤه من الأرض من سلالة من طين، وغذاؤه من الأرض، من الطعام، والشراب، ومرجعه إلى الأرض، حينما يُدفن فى الأرض بعد الموت، أما الروح فمن إرادة الله تعالى مبدؤها من السماء وغذاؤها من السماء وصيرورتها إلى السماء حيث لا تفنى.

الفراغ الروحى!
ويضيف د. عباس أننا نشاهد اليوم طوائف كثيرة من الناس تُحس بالفراغ الروحي، والنفسى الذى يولد الملل، والسآمة، والاكتئاب، والأمراض النفسية، والأزمات الاجتماعية، وذلك راجع لضعف غذاء الروح من ناحية، وطغيان الغذاء المادى من ناحية أخرى؛ فيأتى شهر رمضان المبارك فرصة عظيمة لتقوية الجانب الروحى للإنسان بالغذاءات المتنوعة للروح، فيقدم شهر رمضان المبارك وجبة غذائية دسمة للروح، حتى يخرج الإنسان من هذه المادية المجحفة فى الحياة، ذلك أن الصيام يضعف الشهوة ويقوّم الروح؛ فالذكر، والدعاء، والصلاة، إنما هى صلة بين العبد وربه، وتقوية لروح الإنسان ومشبعة لحاجاته الروحية من الطمأنينة، وراحة الضمير، والرضى، وتلاوة القرآن غذاء للروح، حيث تجعل الإنسان يعيش فى روحانيات عظيمة من الذكر، والتسبيح، والتدبر للآيات، فيجد الغذاء الروحى والنفسي، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ، فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَةِ اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، والمأدبة هى ما يُدعى إليه من الطعام، والغذاء هنا إنما هو من أغذية الروح، وبهذا يخرج الإنسان من الضيق، والاكتئاب، والملل للراحة النفسية، والسكينة القلبية؛ فالسعادة كل السعادة فى الموازنة بين غذاء الروح والجسد، والتى تحمى الإنسان من الفراغ الروحي؛ هذه الموازنة بين غذاء الروح وغذاء الجسد هى التى تجعل الإنسان فى جنة الدنيا، وسعادة النفس، وطمأنينة القلب، والتى قال عنها الحسن البصري: (نحن فى سعادة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف) وقال عنها أحد السلف: (إن فى الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة ومن حرمها حرم جنة الأخرة) إنها جنة الرضا، إنها جنة السعادة، إنها جنة الطمأنينة، إنها جنة الفرحة بالصيام، والقرآن، والقيام، والذكر، والصلاة، والتى تجعل الإنسان يسبح بروحه فى الأنوار القدسية، والعطاءات الإلهية؛ حتى يصل إلى أعلى درجات القرب من الله؛ فينال بذلك روحًا وريحانًا؛ والرَّوْحُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ، وَالرَّيْحَانُ الِاسْتِمَاعُ لِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ، (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) هُوَ أَلَّا يُحْجَبَ فِيهَا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وتلك هى المنزلة الأسمى، والسعادة العظمى، والفرحة الكبرى.