د. أحمد منصور: أول لجنة «رسمية ونظامية» لمراجعته وطباعته فى العالم الإسلامى

أعضاء لجنة مراجعة المصحف الشريف ٢٠٢٤
أعضاء لجنة مراجعة المصحف الشريف ٢٠٢٤

منذ أن دخل الإسلام مصر فى القرن السابع الميلادى على يد القائد عمرو بن العاص، لعبت مصر دورًا بارزًا فى مسيرة الإسلام، فكان لأهلها دور رائد فى بناء الحضارة الإسلامية وتشكيل هويتها، والحفاظ على دعائمها، كون أن مصر دولة حضارية تشكلت منذ عصور قديمة، كان الإيمان إحدى دعائمها.

ولعل أهم ما حرص عليه المصريون عبر أكثر من أربعة عشر قرنًا من دخول الإسلام لمصر، هو حفظ القرآن الكريم، فحملوه فى صدورهم وتلته ألسنتهم وكتبته أيديهم، وطبعته آلاتهم، كما خرج من بين أبنائها قراء كبار من أمثال أبو سعيد عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو بن سليمان (ورش) ابن صعيد مصر، الذى يقرأ القرآن بروايته كأحد قراءات القرآن المُعتمدة فى العالم الإسلامى، حيث تعد ثانى القراءات انتشارًا بعد قراءة حفص عن عاصم، فترسخت بقراءته دولة القراءة والتلاوة فى مصر وأنبتت شجرتها ثمارها عبر العصور حتى قيل: نزل القرآن الكريم فى مكة، وقُرئ فى مصر.

اقرأ أيضاً | بعد صدور طبعة جديدة من «الحي السابع» نعيم صبري: أهتم بالدراما في أعمالي| حوار

وهى مقولة ناقصة فقد كُتب وطبع القرآن أيضًا فى مصر؛ حيث كان الصحابى الجليل ووالى مصر عامر بن عقبة الجهنى كاتبًا للوحى وجامعًا للقرآن الكريم وكان له مصحف كتبه بخط يده فى مصر، كان من أوائل المصاحف التى كُتبت فى العالم الإسلامى بعد مصحف عثمان.

ومن المآثر التى اختصت بها الدولة المصرية هى حرصها على مراجعة آيات القرآن الكريم سمعيًّا ومرئيًّا، فكانت فكرة لجنة مراجعة المصحف الشريف. 



وفى حقيقة الأمر، كانت اللبنة الأولى لإنشاء لجنة لمراجعة المصحف الشريف فى القرن التاسع عشر الميلادى، إذ يشير أحد الأخبار المنشورة فى الوقائع المصرية إلى أن الوالى محمد سعيد باشا أمر بإصلاح المصاحف التى طُبعت فى عهد والد محمد على باشا عام 1832، بعد ما وقع بها من خطأ، ومن هنا يمكن الإشارة إلى بداية التأسيس النظامى والاهتمام الرسمى بوجود مراجعة للمصحف الشريف أثناء أو بعد الانتهاء من طباعته.

لكن لم تُشكل لجنة مراجعة المصحف الشريف بصفة رسمية حتى ذلك الوقت، فكانت المصاحف المنسوخة أو المطبوعة «طباعة حجر» تُعرض على شيخ المقارئ المصرية لإقرارها من عدمه. وظهرت فى نهاية القرن التاسع عشر، دعوات مختلفة حول مذهب الرسم المُتبع فى كتابة آى القرآن، فنجد فريقًا التزم الرسم العثمانى، وتحديدًا مذهب أبى داوود فى رسم كلمات القرآن الكريم (مثل مصحف المخللاتى، ومصحف عبد الخالق حقي)، وعلى الجانب الآخر كان فريق يؤيد استخدام الرسم الإملائى أو الرسم الاصطلاحى فى رسم كلمات المصحف الشريف. وانتهى هذا الخلاف باعتماد الرسم العثمانى فى كتابة آيات القرآن الكريم. 



وكما ذكرنا من قبل أن مشروع طباعة المصحف الشريف كان هدفًا مأمولاً للدولة المصرية، إذ كانت المحاولة الرسمية الثالثة فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى والذى حكم مصر بعد والده الخديو توفيق فى الفترة من 1892-1914.
 
وأقدم إشارة رسمية إلى وجود لجنة مراجعة المصحف الشريف تعود إلى عام 1907، وذلك بالرجوع إلى إحدى الوثائق الرسمية للدولة المصرية، والتى كُتبت باللغة الفرنسية، يُذكر فيها أنه:

شرعت الحكومة المصرية فى عام 1907 فى شهر سبتمبر 1907 فى طباعة القرآن الكريم، وقد تم الاتفاق على أن تقوم مشيخة الأزهر بإعداد مخطوطات المصحف الشريف ومن ثمَّ تصويب البروفات.

ومن أجل إتمام هذا الأمر، فإن وزارة الأشغال العمومية، وبناء على طلب جامعة الأزهر (المشيخة) سوف تقوم بدفع مكافأة قدرها 60 جنيهًا عن شهر ديسمبر 1907 إلى ثلاثة شيوخ، وهم: الشيخ محمد بيومى، والشيخ محمد الحمدانى، والشيخ محمد على خلف الحسينى، شيخ عموم القراء (المقارئ) فى الأزهر. 



وفى 16 نوفمبر 1910، تم الانتهاء من تجهيز كل البروفات الأولية للمصحف الشريف، وتم إرسالها إلى الأزهر الشريف من أجل مراجعتها. واستمر العمل منذ عام 1910حتى عام 1914 لمراجعة عدد 287 صفحة فقط، وذلك نتيجة لوفاة اثنين من المشايخ المكلفين بالمراجعة.

لذلك فقد قررت وزارة الأشغال العمومية إسناد مهمة مراجعة وتصحيح الصفحات الباقية إلى بعض موظفيها المُؤهلين لمثل هذه المهمة. اختارت الوزارة لهذه المهمة المرحوم حفنى بك ناصف، المفتش الأول للغة العربية، والشيخ مصطفى العنانى، والشيخ أحمد الإسكندرانى، وهما من المدرسين فى كلية دار العلوم.

استمرت اللجنة الأولى لمراجعة المصحف الشريف، والتى ضمت ثلاثة أعضاء (مشايخ): الشيخ محمد بيومى، والشيخ محمد الحمدانى، والشيخ محمد على خلف الحسينى، شيخ عموم القراء فى الأزهر، فى العمل من عام 1907-1914. 

وتشكلت لجنة جديدة فى عام 1921م، برئاسة الشيخ محمد خلف الحسينى (شيخ المقارئ المصرية)، والأستاذ حفنى ناصف المفتش الأول للغة العربية بوزارة المعارف العمومية، والشيخ مصطفى عنانى المدرس بمدرسة المعلمين الناصرية، والشيخ أحمد الإسكندرانى (الذى وضعَ قواعد الوقف فى المصحف، ورموز السجدات، وأرباع الأحزاب)، بالإضافة إلى الأستاذ نصر العادلى رئيس المصححين بالمطبعة الأميرية تحت إشراف مشيخة الأزهر. وقامت هذه اللجنة بمراجعة مصحف الملك فؤاد، والذى طبع فى عام 1923. 

وتشير إحدى الوثائق الرسمية إلى أنه تقديرًا لخدمات أعضاء اللجنة، وبالأخص خدمات المرحوم حفنى بك ناصف، فإن وزارة الأشغال العمومية وافقت على إعطاء مكافأة قدرها 100 جنيه إلى ورثة الأخير، وتخصيص مكافأة قدرها 50 جنيها إلى كل من العضوين الآخرين، كما وافقت اللجنة على تخصيص مبلغ 100 جنيه إلى الشيخ محمد على خلف الحسينى، شيخ عموم القراء بالأزهر.

  فلما تقرر إعادة طبع ذلك المصحف فى عهد الملك فاروق، تألفت لجنة جديدة لمراجعة المصحف الشريف، ضمت كلاً من: الشيخ على محمد الضباع شيخ المقارئ المصرية، والشيخ عبد الفتاح القاضى المشرف على معهد القراءات، والأستاذ محمد على النجار بكلية العلوم، والشيخ عبد الحليم بسيونى المراقب بالأزهر الشريف. وقامت هذه اللجنة بمراجعة المصحف الشريف، وقد ظهرت الطبعة الثانية فى عام 1371هـ/ 1952م وكانت أصح وأجمل الطبعات. 

ومع انتشار حركة طباعة المصحف الشريف، أصبح من الأهمية بمكان وجود لجنة دائمة لمراجعة المصحف الشريف، حفاظًا عليه من التحريف، فكانت الدولة المصرية تسند رئاسة اللجنة إلى شيخ عموم القراء واستمر ذلك حتى عهد الشيخ محمد الضباع (ت 1367هـ/1956م)، ثم أسندت إلى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف وقد اصطلحت تلك اللجنة على العلامات الدالة على الضبط واصطلاحاته فى صورته الأخيرة ووضعت فى آخر كل مصحف ليتم الرجوع إليها فيما بعد. 

توالى على رئاسة لجنة حفظ المصحف الشريف أسماءُ كبيرة فى علوم القرآن الكريم مثل: الشيخ عبد الفتاح الضباع، والشيخ محمود خليل الحصرى والشيخ محمود طنطاوى فكان لهم دور كبير فى مراجعة المصاحف الشريفة. 

ولقد شرفت بقبول دعوة أكاديمية الأزهر العالمية لتدريب الأئمة والوعاظ وباحثى الفتوى لإلقاء محاضرة ضمن فاعليات دورة إعداد وتأهيل أعضاء لجنة مراجعة المصحف الشريف، وذلك بمناسبة قبول دفعة جديدة من أعضاء اللجنة، إذ تستمر مسيرة الحفاظ على كتاب الله. كذلك حفظت مصر المصحف الشريف قراءة وتلاوة، نسخًا وطباعةً، وأخيرًا مراجعة وتدقيقًا.