عصير القلم

لا تحارب فى الميدان الخطأ

أحمد الإمام
أحمد الإمام

‭..‬لم‭ ‬يصدّق‭ ‬ضابط‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الياباني‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬قد‭ ‬انتهت،‭ ‬وظل‭ ‬30‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬أدغال‭ ‬الفلبين‭ ‬ينتظر‭ ‬تعليمات‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬قائده‭ ‬الذي‭ ‬أمره‭ ‬ألا‭ ‬يبرح‭ ‬منطقة‭ ‬عملياته‭ ‬حتى‭ ‬يعود‭ ‬إليه‭.‬

‭ ‬هيرو‭ ‬أونودا‭ ‬آخر‭ ‬جندي‭ ‬يستسلم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقهر‭ ‬انكسر‭ ‬أمام‭ ‬أعدائه‭ ‬،‭ ‬وعجز‭ ‬عقله‭ ‬عن‭ ‬استيعاب‭ ‬فكرة‭ ‬رضوخ‭ ‬‭ ‬إمبراطوره‭ ‬للأمريكان‭ ‬وتوقيعه‭ ‬على‭ ‬وثيقة‭ ‬الاستسلام‭.‬

التحق‭ ‬أونودا‭  ‬بالجيش‭ ‬الياباني‭ ‬عام‭ ‬1942،‭ ‬وكان‭ ‬عمره‭ ‬آنذاك‭ ‬20‭ ‬سنة‭ ‬و‭ ‬خضع‭ ‬لتدريب‭ ‬الكوماندوز‭ ‬ليصبح‭ ‬ضابط‭ ‬مخابرات‭.‬

وفي‭ ‬ديسمبر‭ ‬1944‭ ‬استدعاه‭ ‬قائده،‭ ‬الرائد‭ ‬يوشيمي‭ ‬تانيغوتشي‭ ‬،‭ ‬ليخبره‭ ‬أنه‭ ‬سيهبط‭ ‬قريبًا‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬لوبانغ‭ ‬الفلبينية‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬لمساعدة‭ ‬الحامية‭ ‬المحلية‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬أعمال‭ ‬قتالية‭ ‬هناك‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬يودعه‭ ‬قائده‭ ‬أمره‭ ‬بالقتال‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬رمق‭ ‬وعدم‭ ‬الاستسلام‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الظروف‭ .‬

‭ ‬الأوامر‭ ‬كانت‭ ‬واضحة‭ ‬ونفذها‭ ‬أونودا‭ ‬حرفيا‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬ظل‭ ‬يقاتل‭ ‬لمدة‭ ‬30‭ ‬سنة‭ ‬رافضًا‭ ‬الاستسلام‭ .‬

رفض‭ ‬أنودا‭ ‬أن‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬انتهت‭ ‬سنة‭ ‬1945‭ ‬وأن‭ ‬الجيش‭ ‬الياباني‭ ‬خسرها،‭ ‬فقرر‭ ‬الاختباء‭ ‬في‭ ‬الأدغال‭ ‬برفقة‭ ‬2‭ ‬من‭ ‬زملائه‭ ‬وخوض‭ ‬حرب‭ ‬عصابات‭ ‬قَتل‭ ‬خلالها‭ ‬30‭ ‬شخصًا‭ ‬اشتبه‭ ‬في‭ ‬أنهم‭ ‬أعداء‭ ‬لليابان‭. ‬

قصة‭ ‬أونودا‭ ‬عرفت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1950‭ ‬حين‭ ‬عاد‭ ‬أحد‭ ‬الجنود‭ ‬اليابانيين‭ ‬الثلاثة‭ ‬إلى‭ ‬بلاده‭ ‬وأخبر‭ ‬قيادة‭ ‬الجيش‭ ‬بأن‭ ‬جنديين‭ ‬اثنين‭ ‬يابانيين‭ ‬آخرين‭ ‬لا‭ ‬يزالان‭ ‬مختبئين‭ ‬بأدغال‭ ‬الفلبين،‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬ألقت‭ ‬الطائرات‭ ‬اليابانية‭ ‬منشورات‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬لوبانغ‭ ‬الفلبينية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يختبئ‭ ‬فيها‭ ‬أونودا‭ ‬ورفيقه‭ ‬الآخر‭ ‬تخبرهما‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬انتهت‭ ‬،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أونودا‭ ‬ورفيقه‭ ‬المخلصين‭ ‬للامبراطور‭ ‬الياباني‭ ‬لم‭ ‬يصدقا‭ ‬ذلك‭ ‬وظلا‭ ‬في‭ ‬موقعهما‭ ‬‮«‬القتالي‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬واشتبكا‭ ‬مع‭ ‬الجنود‭ ‬الفلبينيين‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬إلقاء‭ ‬القبض‭ ‬عليهما‭. ‬

وبحلول‭ ‬سنة‭ ‬1959‭ ‬ظنت‭ ‬اليابان‭ ‬والفلبين‭ ‬أن‭ ‬أونودا‭ ‬ورفيقه‭ ‬توفيا‭ ‬فأوقفت‭ ‬عمليات‭ ‬البحث‭ ‬عنهما،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1972‭ ‬قتل‭ ‬رفيق‭ ‬أونودا‭ ‬بعد‭ ‬اشتباك‭ ‬مع‭ ‬جنود‭ ‬فلبينيين،‭ ‬فيما‭ ‬بقي‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬وتمكن‭ ‬من‭ ‬الفرار‭ ‬مجددًا‭ ‬لتتأكد‭ ‬السلطات‭ ‬اليابانية‭ ‬ان‭ ‬المحارب‭ ‬الأخير‭ ‬مازال‭ ‬حيا‭. ‬

أرسلت‭ ‬اليابان‭ ‬بعثات‭ ‬جديدة‭ ‬للبحث‭ ‬عنه‭ ‬لكنها‭ ‬جميعها‭ ‬عادت‭ ‬خالية‭ ‬الوفاض،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬كسب‭ ‬ثقة‭ ‬الجندي‭ ‬الوحيد‭ ‬هو‭ ‬شاب‭ ‬ياباني‭  ‬اسمه‭ ‬نوريو‭ ‬سوزوكي،‭ ‬إذ‭ ‬حطّ‭ ‬على‭ ‬جزيرة‭ ‬لوبانغ‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬عام‭ ‬1974،‭ ‬وظل‭ ‬يتجول‭ ‬فيها‭ ‬دون‭ ‬وجل‭ ‬وليس‭ ‬معه‭ ‬سوى‭ ‬حقيبة‭ ‬ظهر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬أونودا،‭ ‬فأوضح‭ ‬له‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬آلت‭ ‬إليه‭ ‬الأمور،‭ ‬لكن‭ ‬الجندي‭ ‬أخبره‭ ‬أنه‭ ‬سيوافق‭ ‬على‭ ‬الاستسلام،‭ ‬شريطة‭ ‬أن‭ ‬يأتيه‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬قائده‭ ‬الذي‭ ‬أصدر‭ ‬له‭ ‬الأمر‭ ‬بعدم‭ ‬الاستسلام‭ ‬والقتال‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭.‬

و‭ ‬قبل‭ ‬سوزوكي‭ ‬التحدي،‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬اليابان،‭ ‬وبمساعدة‭ ‬السلطات‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬الرائد‭ ‬تانيغوتشي‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬بائع‭ ‬كتب،‭ ‬وأقنعه‭ ‬بالذهاب‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬جزيرة‭ ‬لوبانغ‭.‬

وكان‭ ‬مشهدا‭ ‬مؤثرا‭ ‬للغاية‭ ‬عندما‭ ‬التقى‭ ‬القائد‭ ‬مع‭ ‬جنديه‭ ‬الشجاع‭ ‬الذي‭ ‬التزم‭ ‬بأوامره‭ ‬طيلة‭ ‬30‭ ‬عاما‭.‬

تأثر‭ ‬الرجلان‭ ‬بشدة‭ ‬وانحنى‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬للآخر‭ .. ‬وفتح‭ ‬القائد‭ ‬السابق‭ ‬الذي‭ ‬ارتدى‭ ‬لهذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬زيّه‭ ‬العسكري‭ ‬وثيقة‭ ‬وقرأ‭ ‬محتواها‭ ‬على‭ ‬الجندي‭ ‬أونودا‭ ‬قائلا‭ ‬‮«‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬قد‭ ‬انتهت،‭ ‬أعطيك‭ ‬الأوامر‭ ‬بوقف‭ ‬القتال‮»‬‭.‬

أصيب‭ ‬أونودا‭ ‬بالذهول‭ ‬‮«‬أهذا‭ ‬صحيح،‭ ‬هل‭ ‬خسرنا‭ ‬الحرب‭ ‬حقا؟‭ ‬كيف‭ ‬ظللت‭ ‬أقاتل‭ ‬لمدة‭ ‬30‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬‮«‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬انحنى‭ ‬المقاتل‭ ‬الشجاع‭ ‬وأفرغ‭ ‬بندقيته‭ ‬من‭ ‬الطلقات‭ ‬ووضع‭ ‬أغراضه‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬معلنا‭ ‬أخيرا‭ ‬استسلامه‭ ‬بعد‭ ‬30‭ ‬سنة‭ ‬أمضاها‭ ‬مقاتلا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وطنه‭ ‬الذي‭ ‬استسلم‭ ‬قبله‭ ‬بثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬كاملة‭!!‬

كم‭ ‬شخص‭ ‬منا‭ ‬يشبه‭ ‬أونودا‭ .. ‬كم‭ ‬شخص‭ ‬منا‭ ‬أهدر‭ ‬حياته‭ ‬يحارب‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬الخطأ‭ ‬ضد‭ ‬أعداء‭ ‬وهميين‭ ‬اخترعهم‭ ‬في‭ ‬رأسه‭ .‬

قصة‭ ‬الجندي‭ ‬الياباني‭ ‬ملهمة‭ ‬بقسوة‭ ‬لمئات‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬ظلوا‭ ‬لسنوات‭ ‬أسرى‭ ‬لخدعة‭ ‬كبرى‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬رؤوسهم‭ ‬وحدهم‭ ‬مؤمنين‭ ‬بفكرة‭ ‬بالية‭ ‬سيطرت‭ ‬عليهم‭ ‬أنهم‭ ‬وحدهم‭ ‬من‭ ‬يمتلكون‭ ‬الكفاءة‭ ‬والموهبة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬انجاز‭ ‬أي‭ ‬عمل‭ ‬وتحقيق‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مجال‭.‬

عاشوا‭ ‬حياتهم‭ ‬وهم‭ ‬مستسلمين‭ ‬لفكرة‭ ‬ـن‭ ‬الكون‭ ‬بأسره‭ ‬يحاربهم‭ ‬ويضطهدهم‭ .. ‬بداية‭ ‬من‭ ‬طابور‭ ‬الحاقدين‭ ‬والحاسدين‭ ‬الذين‭ ‬لاوجود‭ ‬لهم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬رؤوسهم‭ ‬المريضة‭ ‬،‭ ‬مرورًا‭ ‬بالظروف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬القاسية‭ ‬وسوء‭ ‬الحظ‭ ‬وغياب‭ ‬العدالة‭.‬

ويتناسون‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مئات‭ ‬النماذج‭ ‬الناجحة‭ ‬الذين‭ ‬حاربوا‭ ‬كل‭ ‬الظروف‭ ‬وتغلبوا‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬المعوقات‭ ‬حتى‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬مكان‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬سلم‭ ‬النجاح‭.‬

لا‭ ‬تخترع‭ ‬حروبًا‭ ‬وهمية‭ ‬ولا‭ ‬تقاتل‭ ‬طواحين‭ ‬الهواء‭ ‬ولاتهدر‭ ‬عمرك‭ ‬مستسلمًا‭ ‬لفكرة‭ ‬مجنونة‭ .‬

قاتل‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬الصحيح‭ ‬وحارب‭ ‬الظروف‭ ‬الصعبة‭ ‬والعراقيل‭ ‬التي‭ ‬تعترض‭ ‬حلمك‭ ‬ولا‭ ‬تستسلم‭ ‬لأي‭ ‬مشاعر‭ ‬سلبية‭ ‬تقلل‭ ‬من‭ ‬عزيمتك‭ ‬،‭ ‬وستنتصر‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬ولن‭ ‬تصبح‭ ‬أبدا‭ ‬نسخة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬أونودا‭.‬


 

;