يوميات الاخبار

حكايات الطفولة والشباب

طاهر قابيل
طاهر قابيل

مازلت أرى نفسى مع أطفال الجيران ونحن نلعب بالفوانيس ونشعل الصواريخ ونقذف بالبمب.. وبعد سنوات، ونحن فى مرحلة الشباب، نلعب كرة القدم ونشارك ونشاهد الدورات الرمضانية، وأنا ألعب الشطرنج مع أخى الكبير.

أيام ويأتى العيد وينتهى الشهر الكريم، الركن الرابع من أركان الإسلام، والذى نسعد به بالامتناع نهارا عن تناول الطعام و‌الشراب، وتجنب المحظورات، آملين أن يتقبل الله صومنا وصلاتنا ويغفر لنا ذنوبنا، ونقضى ليله بتلاوة القرآن الكريم، وصلاة التراويح وقيام الليل، داعين الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، فهو الشهر الذى نزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا فى ليلة القدر خير من ألف شهر.. ويرتبط شهر الصيام بصلاة التراويح التى نسارع لأدائها بالمساجد والاعتكاف فى العشر الأواخر، وقبول ودعوات الإفطار والسحور من الأقارب والأصدقاء والجيران.


الانتصارات والشهر الكريم
شهر رمضان يحمل لى الكثير من الذكريات السعيدة مع أبى وأمى وأخى وأختى فى بيتنا المتواضع بإمبابة.. ففى الأيام الأخيرة من شهر شعبان كنا نشارك نحن الأطفال فى قص الأوراق الملونة، ونأخذ من والدتى - رحمة الله عليها- بعض الدقيق والنشا والخيوط لأسعد بإبداعاتى الطفولية فى لصقها على الخيوط، ثم الطلب من جيراننا المساعدة فى ربط حبل الزينة فى «شنكل» شقتهم، أو إيصالها بين الشقق والبلكونات، وأمام العمارة.. وكان والدى - رحمة الله عليه - يرافقنى لأشترى «فانوس» من الزجاج، وكنت أصمم على البطيخة ذات اللون الاحمر والأخضر، ولا ينسى والدى أن يشترى «فانوس» أضخم لنعلقه أمام منزلنا ابتهاجاً بالشهر الكريم.
نقضى آخر يوم فى شهر شوال بانتظار رؤية الهلال، ونحن نستمع لأغانى «أهلا رمضان» قبل أن نهبط السلالم بعد إفطار اليوم الأول إلى الشارع، ونحن نحمل بأيدينا فوانيسنا، ونردد «وحوى يا وحوى أيوحه.. جت يا رمضان».. لنقضى ساعات نحتفل بعد الإفطار الذى يتكون، وخاصة فى الأيام الأولى من «المحمر والمشمر»!، مع تعدد العزومات على موائد الإفطار والسحور، لتجتمع عليها العائلة والجيران، وتغير الزوار والرواد ونحن شباب لينضم للمائدة الأصدقاء وزملاء العمل، لنتناول بعدها الكنافة والقطائف، ونشرب الشاى والقهوة وندخن السجائر.. فشهر رمضان موجود منذ الجاهلية.. وجاءت تسميته من الأصل «رمَض»، أى شدة الحر، حيث وافق هذا الشهر حر شديد.. وتعددت الأقوال والمفاهيم الإسلامية له، منها أنه يرمض الذنوب أويحرقها بالأعمال الصالحة، ويقال إن العرب كانوا يرمضون أسلحتهم فيه، أى يشحذونها ويجهزونها استعدادا للحرب فى شهر شوال.
كنا نحافظ بالشهر الكريم على العبادات، وانتظار ليلة القدر، ليغفر الله لنا ذنوبنا، ومع اقتراب عيد الفطر كنا نشارك ونحن أطفال أمهاتنا فى صنع الكعك والبسكويت والفطائر المحشوة بالعجوة، والغريبة والبيتى فور، ونسارع لحمل الصاجات إلى أقرب الأفران لنتسابق فور وصولها إلى المنزل لتناول ما نحمله وهو طازج وساخن.. وقد ارتبط الشهر الكريم وعيد الفطر بالعديد من الأحداث، منها فى شهر رمضان، وكنت بالصف الخامس الابتدائى بانطلاق قواتنا لمحو الهزيمة وتحقيق النصر فى السادس من أكتوبر.
وأتذكر أنى يومها كنت أجلس فى بيتنا بعد أن عشنا أعواما استعدادا للمعركة، وكان اقتصادنا اقتصاد حرب، ونحن نخفى ضوء منزلنا باللون الأزرق، ونسارع مع كل غارة الى الملاجئ، وكان أول بيان لقواتنا المسلحة بعبورنا قناة السويس وقع الفرحة على الكبار والصغار، وانتظرت مع أسرتى البيانات التالية، ومن حظى أنى فى العام التالى شاركت مع طلاب المدارس والجامعات فى الاحتفال بمرورعام على نصرأكتوبر، والذى أقيم باستاد القاهرة، وحضره الرئيس الراحل بطل الحرب والسلام الرئيس أنور السادات، وكنت أرتدى زى القوات البحرية الذى احتفظت به أعواما وأعواما، وكان مصدر فخر لى ولأسرتى لسنوات عديدة وحتى الآن.
المتعة بدار التمساح
مازلت أرى نفسى مع أطفال الجيران ونحن نلعب بالفوانيس ونشعل الصواريخ ونقذف بالبمب.. وبعد سنوات، ونحن فى مرحلة الشباب، نلعب كرة القدم ونشارك ونشاهد الدورات الرمضانية، وأنا ألعب الشطرنج مع أخى الكبير - رحمة الله عليه - ولا نتركه إلا مع وجبة الإفطار أو أداء الصلاة، ولقد كنت حريصا على عدم السفر خارج مصر فى شهر رمضان، لأنه لدينا رمضان بمصر له طعم آخر، ولم يحدث هذا غير مرة واحدة فى سفرى إلى كرواتيا والبوسنة والهرسك، ولم أشعر بالغربة مع أفراد قواتنا المسلحة فى فرض وحفظ السلام، الذين حرصوا على نقل شعائر الشهر الكريم الى هناك، بما فيه الكنافة والقطائف وسحور الفول المدمس والجبن والبيض.. وأتذكر كيف كانت أسرتى البسيطة تستعد لعيد الفطر بشراء الملابس الجديدة، وتجهيز وجبات الترمس والفول السودانى والكعك والبسكويت الذى نتناوله فى إفطار اليوم الأول من شهر شوال صباحا، مع كوب من الشاى باللبن والبسكويت والكعك، بعد أن كنت أذهب وأبناء الجيران إلى مسجد ناصر بجوار منزلنا لنصلى صلاة العيد، ثم يطرق أبى أبواب الجيران ليعيد عليهم، ثم أحصل على العيدية لأشترى بها لعب الأطفال، وأتناول وجبة الكشرى الشهيرة، وأستأجر دراجة هوائية، وأتبادل التهانى والأطباق الشهية مع الجيران، ثم نزور قلعة صلاح الدين والأهرامات وحديقة الحيوان، وندخل دارا للسينما.. فمصر اليوم فى عيد.
فى اليوم الأول من العيد ذهبت لمحافظة الفيوم القريبة من القاهرة، وهى إحدى الواحات التى تقدم صورة مصغرة لمصر، وتتجمع فيها كل عناصر الجذب السياحى، وتمتاز بجمال الطبيعة وجوها المعتدل.. وظهرت فيها حضارات ما قبل التاريخ.. والتى تركت بصمتها الخالدة من آثار فرعونية ويونانية ورومانية وقبطية وإسلامية، وتتصل بمحافظتى الجيزة وبنى سويف، وتعتبر إحدى المنخفضات الكبرى، أو تجويف غائر يتصل بنهرالنيل عن طريق فتحة اللاهون، وتضم البيئات الطبيعية الزراعية والصحراوية، ذهبت إلى محميات بحيرة قارون وواديى الريان والحيتان، وزرت منطقة السواقى، وشاهدت مجموعة متنوعة من الآثار.. وعرفت أن الفيوم قديما كان يطلق عليها الجزيرة، لأنها كانت وقت تكوينها واقعة فى بحيرة موريس أو قارون، وأطلق عليها جدودنا قدماء المصريين دار التمساح، والعرب فيوم، وأضافوا إليها أداة التعريف «ال» فأصبحت الفيوم، ويقال إن اسمها كان بالنصوص المتأخرة من عهد جدودنا قدماء المصريين «بيوم» بمعنى البحيرة أو الماء، وكانت جزءاً من المقاطعة العشرين من مقاطعات الوجه القبلى، وعاصمتها إهناسيا أحد مراكز المحافظة المجاورة - بنى سويف حاليا- وكانت مركزا للصيد حول بحيرة موريس بالعصر البطلمى، الذين أقاموا مدينة «كرانيس» لتسكين المهاجرين الإغريق، ومع السنوات تدهورت المدينة بعد ازدهارها.. واختفت مع نهاية القرن الثالث الميلادى.. وتتخذ أرض محافظة الفيوم شكل المدرجات، وأولها من قناطر اللاهون حتى مدينة الفيوم، والثانية من مدينة الفيوم وحتى قرية «سنهور»، والثالثة من «سنهور» حتى «شكشوك»، وساحل بحيرة قارون، الأثر الباقى من بحيرة موريس التى كانت من أغنى مراكز الصيد، ومن أقدم البحيرات الطبيعية، ويظهر بوسطها هرمان يغمرهما الماء إلى منتصفهما وقت الفيضان.. وزرت بحيرة قارون، وذهبت الى جبل قطرانى، وشاهدت حفريات عمرها 40 مليون سنة والطيور المهاجرة والمقيمة تتوافد عليها، وهياكل للحيتان، وشاهدت الإبداع فى «معبد قصر الصاغة»، وبمنطقة «أهربت» وفى «دير أبو ليفة»، وبالمحاجر الفرعونية القديمة المعروفة بودان الفرس، وفى «معبد قصر قارون»، وجلست فى إحدى المنشآت السياحية المقامة حول ساحل البحيرة، ثم ذهبت إلى «محمية وادى الريان»، وشاهدت الشلالات والتشكيلات الصخرية، وقضيت باقى اليوم فى وادى الريان، وجلست اشاهد النجوم ليلا من فوق «جبل المدور»، بعد ان زرت منطقة الشلالات، وعيون الريان، والواحة التى تتكون من كثبان رملية متحركة، وبها 4عيون، مياهها كبريتية، ومررت على منطقة «جارة جهنم» التى تتضمن حفريات لحيتان متحجرة، وزرت «سواقى الهدير» التى تدار بقوة دفع المياه، وتستخدم لنقلها من منسوب أدنى إلى أعلى.
كهف وادى سنور
قضيت ليلى بمحافظة الفيوم قبل أن أسافر فى اليوم التالى إلى بنى سويف لمشاهدة الجمال والإبداع الإلهى فى «كهف وادى سنور»، والذى أكتشف فى بداية ثمانينيات القرن الماضى بالصدفة، فقد أدى تفجير للكشف عن مدخل للكهف الذى يبعد عشرة كيلومترات جنوب شرق مدينة بنى سويف، وهو عبارة عن كهف من الحجر الجيرى مغطى بالمرمر، ناتج عن الينابيع الحرارية، ويمتد700 متر فى باطن الأرض، على عمق 15 مترا، وينقسم إلى جزءين يحتوى الأول على تكوينات كاملة من الهوابط والصواعد، والثانى ترسيبات من الكالسيوم بأشكال مختلفة، ويعتقد أن أسفله كهف آخر، وقد أدت الجيولوجيا الفريدة والتكوينات الجميلة إلى وضعه ضمن قائمة المحميات الطبيعية، وحكى أحد الخبراء أنه تم اكتشافه أثناء قيام عمال المحاجر باستخراج خام الألباستر، فظهرت فجوة تؤدى الى باطن الأرض، وعثر داخله على التراكيب الجيولوجية النادرة من حجر الألباستر، والتى تأخذ أشكالا جميلة تعود إلى العصر الأيوسينى الأوسط، منذ 40 مليون سنة، نتيجة لتسرب المحاليل المائية المشبعة بأملاح كربونات الكالسيوم، من خلال سقف الكهف، ثم تبخرت تاركة الأملاح المعدنية التى تراكمت على هيئة الصواعد والهوابط.


حواديت لا تنسى
استمتعت بجولتى داخل الكهف الذى ترجع أهميته إلى ندرة هذه التكوينات الطبيعية فى العالم، وقيل لى انه مركز الكرة الارضية.. وفى ثالث أيام عيد الفطر ذهبت لزيارة «هرم ميدوم» المدرج الذى بناه «الملك حونى»، آخر ملوك الأسرة الثالثة، وأتمه «الملك سنفرو» مؤسس الأسرة الرابعة، وكان مكونا من سبع درجات، لم يتبق منها إلا أربع فقط، وتجولت بجبانة آثار أبو صير بالواسطى، والتى تضم مجموعة كبيرة من المقابر المنحوتة، وذهبت الى «أهناسيا»، وشاهدت مجموعة من المقابر بها نقوش مختلفة، وبقايا أعمدة معبد رومانى، وشاهدت فى «دشاشة» مقابر ترجع إلى الدولة القديمة، وبـ «الحيبة» بقايا أسوار قديمة.. وزرت بالمحافظة مجموعة من الآثار الإسلامية، منها «مقبرة مروان بن محمد» فى قرية أبو صير، آخر ولاة الدولة الأُموية.. ومئذنة المسجد الكبير بدلاص من العصر الفاطمى، ويصل ارتفاعها إلى 14 مترا على شكل ثمانى، وتتكون من 4أدوار مزخرفة بزخارف تشبه الشمس المشعة، وشاهدت قبل مغادرتى بعض الآثار القبطية بمنطقة «المضل»، والتى عثر بها على كتاب «مزامير النبى داود» باللغة القبطية، وزرت «دير الحمام» بالقرب من قرية اللاهون، وعدد من الاديرة منها «دير الأنبا أنطونيوس» بناصر، وبه كنيسة بنيت على طراز كنيسة القيامة فى فلسطين.


أنهيت ايام عيد الفطر الثلاثة، واستمتعت برؤية مصر العظيمة، والاستمتاع بحكايات وحواديت الطفولة والشباب، التى تركت ذكريات لا تنسى، وخاصة بعد ان حافظ جيلنا والجيل السابق على عادات وتقاليد شهر رمضان وعيد الفطر، واتمنى ان تحافظ عليها الاجيال القادمة.. فمصر هى التاريخ والعادات والتقاليد الموروثة.