مكتبة الإسكندرية تحتفظ بالحروف المعدنية التى كُتب بها: «مصحف الملك فؤاد» أول المصاحف المطبوعة فى الوطن العربى

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

يظن كثير من الناس أن مصحف الملك فؤاد هو أول مصحف مطبوع فى مصر، ولكن الأمر ليس كذلك، فقد سبقه جده محمد على باشا، ثم أخوه الخديو توفيق، والذى حكم مصر فى الفترة من 1879-1892. والدليل على ذلك أنه تم طبع نسخة من المصحف الشريف فى مطبعة بولاق فى عام 1299هـ/1881م، وذلك بطريقة جمع الحروف.

وهذه الطريقة كانت أحدث طرق الطباعة فى ذلك العصر، فبدلاً من استخدام الطباعة الحجرية أو النسخ اليدوي، تم استخدام أفضل طرق الطباعة وهى جمع الحروف المعدنية، إذ كانت مطبعة بولاق فى ذلك الحين، هى بالفعل دار الطباعة العامرة التى تطبع أهم الكتب والإصدارات. إذ ورد فى آخر صفحة من المصحف العبارة التالية: «تمّ طبع هذا المصحف الشريف الغنـيّ عن إطراء المادح المكتفى بجلالته وعظيم شأنه عن تنميق المدائح والتشييد والترصيف، بالمطبعة العامرة ببولاق مصر القاهرة فى العام التاسع بعد التسعين والمائتين والألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وكلّ ناسج على منواله ما لاح بدر تمام وفاح مسك ختام».

اقرأ أيضاً | عاطف سليمان يكتب : وهى سماءٌ صغيرة

لكن لم يلق هذا المصحف أى اهتمام من جموع المسلمين نظرًا لأن بعض آياته لم تكتب على الرسم العثمانى الذى ارتضاه المسلمون فى كتابة المصاحف، بالإضافة إلى افتقاره إلى جماليات الخط العربي، لذلك لم يكتب له النجاح، وانصرف المسلمون يقرأون فى مصاحفهم المنسوخة باليد، أو تلك المطبوعة بالحجر.
 
أول لجنة رسمية لمراجعة المصحف الشريف
وفى حقيقة الأمر، لم يغب مشروع طباعة المصحف الشريف عن أهداف الدولة المصرية، إذ كانت المحاولة الرسمية الثالثة فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى والذى حكم مصر بعد والده الخديو توفيق فى الفترة من 1892-1914. واستنادًا إلى إحدى الوثائق الرسمية للدولة المصرية نجد أن المطبعة الرسمية للدولة المصرية بدأت من شهر سبتمبر 1907 فى طباعة نسخة جديدة ومطابقة تمامًا من القرآن الكريم، وذلك بناء على اتفاق تم بين الإمام الأكبر لجامعة الأزهر (شيخ الأزهر)، وبين المطبعة حيث تقوم جامعة الأزهر (المشيخة) بإعداد مخطوطات المصحف الشريف ومن ثمَّ تصويب البروفات.



فضلاً عن ذلك، فإنه من أجل تفادى حدوث أى خطأ أو حذف قد يحدث فى المصحف الشريف، فقد اتفقت وزارة الأشغال مع المطبعة الأهلية على عدم إعطاء الإذن بالطباعة لأية صفحة إلا بعد مراجعتها وتصويبها من قبل شيخ عموم القراء بالأزهر، ومن ثم اعتمادها من قبل الإمام الأكبر. كذلك تم الاتفاق على تجهيز كليشيه خاص لكل صفحة، يستخدم فى عملية الطباعة، وذلك بعد الانتهاء من التصويبات النهائية.

للأسف توقفت عملية طباعة المصحف فى 1914 لعدة أسباب، منها وفاة بعض أعضاء لجنة مراجعة المصحف الشريف، وهذه هى أول لجنة رسمية معينة من الدولة المصرية لمراجعة المصحف الشريف، وضمت الشيخ محمد بيومي، والشيخ محمد الحمدانى، والشيخ محمد على خلف الحسيني، شيخ عموم القراء فى الأزهر. بالإضافة إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى الذى أدى معه إلى عزل الخديو عباس حلمى الثانى -صاحب مشروع طباعة المصحف الشريف-، وكذلك صعوبة الحصول على مستلزمات الطباعة فى وقت الحرب، فتوقفت طباعة المصحف منذ عام 1914 حتى عام 1921، حين بدأ الملك فؤاد فى التفكير فى استكمال مسيرة طباعة المصحف الشريف. 

مصحف الملك فؤاد: النسخة الأم للمصاحف المطبوعة فى العالم الإسلامى برواية حفص عن عاصم
بدأ التجهيز لطباعة المصحف الشريف منذ عام 1921-1922، وتمت مراجعة البروفات السابقة، حتى تم الانتهاء من طباعة المصحف الشريف فى السابع من شهر ذى الحجة 1342هـ/10 يولية 1924، وهو ما يعرف اصطلاحًا بـ«مصحف الملك فؤاد»، أو «مصحف القاهرة»، أو «مصحف مصلحة المساحة»، ويعتبر الأكثر انتشارًا فى ربوع العالم الإسلامى حتّى القرن العشرين.



كُتب لمصحف الملك فؤاد القبول فى ربوع العالم الإسلامى لأنه وافق أهم قاعدة لكتابة المصحف، واتباع الرسم العثماني، بالإضافة إلى أن تصميم الحروفِ الطباعية جاء متوافقًا مع قواعد خط النسخ الذى كان مستخدمًا فى المخطوطات القرآنية. وتتلخص أهم الجوانب الفنية فى مصحف الملك فؤاد فى عدة نقاط، منها دقة تنفيذ المحارف، والتوازن فى حجم المحارف، الاتساق والتناسق فى علامات الإعجام، والتوافق مع قواعد الخط العربي، ودقة الاتصالات بين الحروف، ومراعاة الفواصلِ ـ المسافاتِ ـ بين الحروف الطباعية، وأخيرًا يجبُ مراعاة علامات الشكل.

وبالتالي، تم اعتماد مصحف الملك فؤاد لتكون هى النسخة الأساسية التى سوف يتم الاعتماد عليها مستقبلاً لطباعة المصاحف فى العالم الإسلامى بأكمله، إذ قامت المطابع فى شرق العالم والإسلامى وفى غربه باتباع نسخة مصحف الملك فؤاد فى الرسم العثمانى للآيات، عدد سطور كل صفحة، عدد الآي، أسماء الصور، مواضع السجدات، التحزيب (تقسيم الأحزاب)،.... الخ. كما ساهم مصحف الملك فؤاد فى انتشار رواية حفص عن عاصم دونها من الروايات المتواترة لقراءة القرآن الكريم. 

ويرجع الفضل أولا لله تعالى أن وفق الملك فؤاد فى الأمر بطباعة المصحف الشريف بعد أن تكاسل علماء الأستانة واختلفوا حول حكم الشرعى في جواز طباعة المصحف بواسطة آلات الطباعة المعروفة فى وقتهم. الأمر الذى جعل السبق للدولة المصرية باتخاذ هذا القرار العظيم بطباعة المصحف الشريف بواسطة المطابع الأميرية - ببولاق.

ويجب أن نشير فى هذا المقام إلى القائمين على تصحيح وتدقيق هذه النسخة الأصلية من مصحف الملك فؤاد، وهم الشيخ محمد خلف الحسينى (شيخ المقارئ المصرية)، وحفنى ناصف المفتش الأول للغة العربية بوزارة المعارف العمومية، ومصطفى عنانى المدرس بمدرسة المعلمين الناصرية، الشيخ أحمد الإسكندري، بالإضافة إلى الأستاذ نصر العادلى رئيس المصححين بالمطبعة الأميرية تحت إشراف مشيخة الأزهر. 

كما قام الخطاط المصرى محمد جعفر بك بكتابة القاعدة النسخية لحروف المطبعة الأميرية والتى تمثل أروع وأبدع قاعدة خطية شهدها الوطن العربى حيث أصبحت بعد ذلك القاعدة النسخية لمصحف الملك فؤاد أول المصاحف المطبوعة فى الوطن العربي، والتى سبكت باستخدام الرصاص، لكى تستخدم فيما بعد فى طباعة المصحف الشريف. تحتفظ مكتبة الإسكندرية بنماذج من الأحرف الرصاص التى استخدمت فى طباعة مصحف الملك فؤاد، وذلك فى معرض تاريخ الطباعة (معرض مطبعة بولاق). 

مصحف مصر 2022
ولا يمكن أن نتحدث عن رحلة طباعة المصحف الشريف فى مصر، دون التنويه إلى قيام شيخ الأزهر، الشيخ أحمد الطيب بإهداء الرئيس عبدالفتاح السيسى فى عام 2022، نسخة نادرة من المصحف الشريف أطلق عليها "مصحف مصر". وهى نسخة استمر العمل عليها لمدة عشرين عامًا من أجل البحث الدقيق عن أصول الزخارف الهندسية التى استخدمت فى هذه النسخة النادرة المستوحاة من المخطوطات القرآنية النفيسة التى ترجع للحقبتين الإيلخانية والمملوكية، مع مقاربة للألوان المستخدمة فى التذهيب والزخرفة، بالإضافة إلى استخدام أنواع الورق المصنوع من القطن الصافى والخالى من الأحماض؛ للمحافظة على رونق الألوان زمنًا طويلاً.
لكن النقط الأهم هى أنه تم تنضيده باستخدام خط الملك فؤاد، الذى أعيد تجديده آليًّا بواسطة برنامج خاص على الحاسوب، اعتمادًا على ما كان كتبه الخطاط محمد جعفر بك، المتوفى سنة ١٩١٦م، واضع القاعدة النسخية للمطبعة الأميرية التى تمثل أبدع قاعدة خطية شهدها العالم الإسلامي، فكان أول مصحف أصيل مطبوع بالحروف المعدنية المنفصلة فى سنة ١٣٤٢هـ - ١٩٢٤م، جميلاً وأنيقًا يليق بقداسة كلمات الله.