سلسلة "كلمات ربي وآياته في القرآن والكون".."أقطار"

 أحمد فؤاد باشا
أحمد فؤاد باشا

تواصل بوابة أخبار اليوم نشر سلسلة (كلمات ربي وآياته في القرآن والكون). للأستاذ الدكتور، أحمد فؤاد باشا عضو مجمع اللغة العربية، وحلقة اليوم عن كلمة "أقطار".

 

أقطار: واحدتها قُطْر. والقطر: الناحية. ومنه قيل القطر: لجملة من البلاد والنواحي تتميز باسم خاص.

وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم بهذا المعنى مرتين: الأولى في قوله تعالى: {{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} (سورة الأحزاب: 14)، والثانية في قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (سورة الرحمن: 33).

وتبين هذه الآية الكريمة لمعشر الجن والإنس أنهم لن يستطيعوا السفر في الفضاء والخروج من أقطار السماوات والأرض إلا بسلطان من الله عز وجل. والتعبير القرآني يجيز – والله أعلم – إمكانية تحقيق ارتياد الفضاء لمعشر الجن والإنس كل بحسب قدراته، وهذا ما تحقق فعلاً إلى حدٍّ ما في عصرنا الحاضر بالنسبة لمعشر البشر عن طريق العلم الذي يهيئ لهم الأسباب، أما موضوع الجن فهو غيب فوق مستوى إدراكنا لا يخضع لمنهجنا العلمي في البحث، وليس لبشر إلا أن يسلّم فقط بما جاء بشأنه في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

ولقد ظل الإنسان زمنًا طويلاً يحلم بالسفر في الفضاء إلى أن تمكن في خمسينات القرن العشرين فقط من تطوير صواريخ مناسبة لحمله في مركبات فضائية تدور حول الأرض، كما حدث في رحلة رائد الفضاء الروسي "يوري جاجارين" عام 1961م، أو تهبط على سطح القمر، مثل رحلة سفينة "أبوللو 11" التي أطلقها الأمريكيون عام 1969م بواسطة صاروخ جبار يدعي "ساتورن 5". وتوالت بعد ذلك سلسلة رحلات "أبوللو" لتحقيق المزيد من الاكتشافات وجمع المعلومات عن القمر، كذلك حققت سفن الأبحاث الفضائية الموجهة ذاتيًا بدون بشر فوائد علمية مهمة بإرسالها معلومات قيمة عن كواكب المجموعة الشمسية وأقمارها. وقد احتلت السفينة "فويجر 2" Voyager2 أهمية خاصة بسبب ما كشفته حديثًا عن عوالم المشترى وزحل وأورانوس ونبتون، وهي الكواكب التي زارتها خلال رحلتها المثيرة منذ إطلاقها من الأرض في عام 1977م، وبثَّت خلالها آلاف الصور التفصيلية الدقيقة التي غيرت الكثير من تصورات العلماء عن هذه الكواكب. وعندما ينفد وقود "فويجر 2" من طاقة البلوتونيوم في عام 2015م تقريبًا، حسب توقع العلماء، فإنها تكون قد انطلقت إلى خارج حدود مجموعتنا الشمسية وأخذت تسير على غير هدي في أعماق الفضاء السحيق بعيدًا عن مراقبة الإنسان الذي أطلقها. 

وإذا كان الإنسان قد تحقق له ارتياد الفضاء في عصرنا الحاضر بنفاذه من أقطار الأرض ووصوله إلى القمر، فإن مواصلة الترقي في أعماق الفضاء للخروج من أقطار السموات أمر تكتنفه أخطار ومصاعب كثيرة، مثل أحزمة الكويكبات والأشعة الكونية، ناهيك عن المسافات الفلكية الهائلة بين مواقع النجوم. ويكفي أن نعلم أن أقرب نجم إلينا، وهو نجم "ألفا قنطورس" يقع على بعد 4.3 سنة ضوئية تقريبًا، أي حوالي 39.9 مليون مليون كيلومتر. ومن ثم فإن الإنسان لا يستطيع تحديد المدى الذي يمكنه الوصول إليه بأمان في الفضاء دون أن يتعرض لما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} (سورة الرحمن: 35)، لكن هذا المدى، على أيَّة حال، محدود بحدود الإمكانيات والمقاييس البشرية.

ولعل فيما حققه العلم في عصر الفضاء سبيل الإيمان الخالص بمعجزتيْ الإسراء والمعراج اللتين حدثتا تكريمًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمقاييس خارقة للعادة ومجاوزة حدود الزمان والمكان المعروفين للبشر على الأرض. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (سورة الإسراء: 1). وقال سبحانه: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)} (سورة النجم: 13-18).

فإذا كان الإنسان قد استطاع بعلمه المحدود أن يسافر إلى القمر، وأن يرسل أجهزته ومعدّاته إلى أعماق الكون، فهل يستحيل على خالق الإنسان والكون أن يسري بعبده محمد – صلى الله عليه وسلم – من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس، أو يعرج به في السماء إلى سدرة المنتهى عند جنة المأوى؟! حاشا لله القائل في محكم التنزيل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة فصلت: 53).