الدكتورة سارة فوزي تكتب: دراما «المتحدة».. مرآة وعي لكل مواطن 

الدكتورة سارة فوزي  
الدكتورة سارة فوزي  

من المستحيلات المعروفة في التراث العربي هى الغول والعنقاء والخِل الوفي ينضم إليها أن تقدم عملا دراميا يجمع الكل على مشاهدته أو محبته أو حتى الاتفاق على عناصر بنائه الدرامية؛ فمنذ نشأة الدراما على يد أرسطو ومن جاءوا بعده، كل يأتي لينتقد من قبله ويثبت أحقيته الفلسفية متناسين أن وجود عمل درامي متكامل هى أسطورة غير حقيقية، فلا يوجد عمل درامي مثالي أو كامل لكن هناك عملا دراميا يُشعِرك بالكمال ويجعلك تتلمس طريقا نحو المثالية.


تزداد الانتقادات جيلا بعد جيل ومع وجود مواقع التواصل، أصبح الجميع ناقدًا وناقمًا، لم يعد الرأي قاصرًا على أستاذ جامعي بمادة الدراما أو ناقد فني بحق، لكن الجميع يدلي بدلوه يرفع شأن هذا ويحط من ذاك، يهاجم ذلك ويتصيده من أجل لعبة «التريند».


ما يثير اهتمامي وسط فيض النقاد غير الدراميين من أهل «السوشال ميديا» هو القرارات الدرامية الجريئة والاختيارات المتميزة في الأعمال التي تُقدم خلال شهر رمضان أو على مدار العام من إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية.


هي تنصت لجمهورها متقلب الرأي والمزاج وتتلمس بذكاء ذائقته الفنية متلاحقة التغير، لكنها في ذات الوقت تخوض معركة للوعي والمصير والتغلغل إلى الوجدان وبناء المعرفة. 


لا أخفي عليكم منذ عدة سنوات انتقدت بشدة معظم الأعمال الدرامية المصرية المعاصرة، وشخصياتها الأحادية في البعد الدرامي وصراعي الخير والشر المطلقين بكل سذاجة، كنت أمتعض من أسطورة الثلاثين حلقة من المط والحشو، وكنت أحزن لغياب الدراما الدينية والتاريخية، وكنت أفكر أين حظ الأطفال من المائدة الدرامية المصرية؟ ، وصرت أرى الغرب يخرج أجيالا مذهلة من صغار ومراهقي الممثلين وأقول أيعقل أن نتوقف عند جيل درامي واحد ليبرز لنا فراغا دراميا يجعلنا لا نجد من يمثل دراما المراهقين؟، أين مواقع التواصل بحسناتها وسيئاتها ضمن تيمات وأفكار الأعمال الدرامية؟ ، أين جيل  «بيتا» و«ألفا» و «زي» من هذه الأعمال ممن كبروا يشاهدون منصات غربية تتلاعب بأفكارهم ومعتقداتهم وأسلوب حياتهم وثقافتهم؟


سعدت بالطفرة التي تشهدها المتحدة في اختيارات السيناريوهات الإبداعية في الأعوام الأخيرة، قولا واحدا المتحدة تتصدر كما وكيفا، لأن المتحدة أدركت أن الحل ليس في عمل مثالي يجتمع عليه الجمهور بل المعادلة الدرامية الصحيحة أن تقدم مسلسلات مختلفة تناسب كل فئة من جمهورك بتطلعاته، بأفكاره، باحتياجاته النفسية أو العقلية والثقافية، أي أن يجتمع الناس على دراما المتحدة وتفرقهم أيضا اختياراتهم الدرامية التي تنتجها، من ثم تجد المتحدة في كل بيت وكل عقل مهما كان عمره أو مستواه الثقافي والاجتماعي، أن يجد كل منا المرآة التي تعكس واقعنا أو حتى فانتازيا أحلامنا !


 «المتحدة» حققت Demassification  في الدراما أي تقسيم الجمهور لقطاعات وكل مسلسل أو مسلسلين ينتمي لنمط درامي معين يخاطب هذه الفئة ويضمها إليه. في الموسم الرمضاني الحالي ما يقرب من 20 مسلسلا يتنافسون على قلوب ووجدان العالم العربي، يأتي في مقدمتهم ريمونتادا مصرية قوية في الدراما التاريخية الملحمية بعد غياب سنوات عديدة عن هذه الدراما أدت إلى بروز إنتاج لدول أخرى يتحكم في سرديات التاريخ ويتلاعب بالأجيال الناشئة سياسيا، فخري بمسلسل (الحشاشين) لا يوصف، ميزانية ضخمة صنعت عملا متكامل إخراجيا ومذهل بصريا، يطور من الصناعة بمجال تصميم الديكور والمعارك إلى جانب الخطوط الدرامية المركبة والحبكة دائمة التطوير والشخصيات الدرامية المعقدة.


 كل ذلك مغلف بإسقاطات سياسية ورمزيات ثقافية تجعل المشاهد يبحث ويتقصى ويرى من هم الحشاشون بزماننا الذين ظنوا أن الله لم يخلق سواهم ولم يهدِ سواهم من يحرفون الدين على أهوائهم والكلم عن مواضعه فضلا عن السجال الفكري الذي يدفع النشء للقراءة أو مشاهدة فيديوهات تعريفية عن هذه الجماعة أو غيرها من شخصيات العالم الإسلامي.


يمكنك أن تقدم شخصية تاريخية عظيمة ومستنيرة ومفكرة في دراما السيرة الذاتية واشجع ذلك قلبا وقالبا، لكن لنكن واقعيين دراما السيرة الذاتية قد يتابعها البعض وقد لا يهتم بها البعض الآخر ففي عالم الدراما التاريخية الملحمية أن تقدم الشخصيات المركبة ذات البعد الرمادي المتأرجح بين الخير والشر هو ما يجعل الناس تتعلم وتعي الدرس بشأن مرجعيات الجماعات المتطرفة فكرا وكيف تجند ضحاياها وتغويهم، وأعظم ما تقدمه الدراما التاريخية الملحمية هو التساؤل الذي تثيره في نفس جمهورها هل التاريخ يكرر نفسه لأننا لا نتعلم منه أم لأننا لا نتذكره حيث نخشى الحديث عنه؟


تستمر رحلة المتحدة في التفرد وتقدم لأول مرة عالم أسطوريا ودراما الفانتازيا التي لا تقل مطلقا عن الأعمال البوليوودية والهوليوودية من خلال مسلسل «جودر» وقصص ألف ليلة وليلة، ملحمة أخرى لكن في صناعة المؤثرات البصرية وكل ذلك بأطقم مصرية خالصة بشباب مصري يدربهم مصريون قد سبقوهم ولحقوا الركب، جودر يدفعني للإحساس بأننا قادرون أيضا أن نقدم دراما الأبطال الخارقين التي لطالما قوبلت بعالمنا العربي بالسخرية والاستهزاء المستحق لضعف المؤثرات البصرية والتقنية المطلوبة لتنفيذها، لكن المتحدة وضعت أول أقدامنا بهذا العالم.


اختيارات درامية جريئة ! 


لفترة ليست ببعيدة كنت قد مللت الدراما الاجتماعية، تيمات الخيانة والانفصال والطلاق والبلطجة والمخدرات قد أخذت منا دهرا واستهلكتنا فكرا، هذا العام قدم لنا مسلسل «صلة رحم» قضية تأجير الأرحام والأم البديلة في إطار الاختيارات الإنسانية المتراكبة التي تجعل الإنسان يضعف، لا أحد على صواب ولا أحد على خطأ، لا تتحدث عن المبادئ ومبادئك لم تختبر هى التيما البارزة بهذا المسلسل الذكي.


والمسلسل الذي اعتبره الحصان الأسود «مسار إجباري» الذي يضعنا في مفارقة التصالح مع الماضي للمضي قدما أم كبت الذكريات في أعماق الذاكرة، رحلة الأخين للتعرف على أحدهما الآخر في دراما اجتماعية بطلها نجمين يقدمون دروسا تمثيلية وهم ( أحمد داش، عصام عمر).


المرأة والأم ومشكلات الفتاة المعاصرة حاضرة بقوة في دراما المتحدة


في فترة ما بالدراما المصرية قُدُمت شخصيات نسائية لا تشبهنا، شخصيات جاحدة منحرفة متطرفة فاسدة ، لا يعطيك الكاتب الأسباب التي اوصلتها لذلك وبالطبع نهايتها الوفاة أو السجن في خطبة أخلاقية عصماء، كنت اتعجب من الشذوذ الفكري في المعالجة الدرامية والتطرف الأكبر في إظهار هذه الشخصيات على أنها السواد الأعظم من نساء مصر وليس نذر قليل منه !


أحببت كثيرا أن المتحدة عالجت هذا الشذوذ، فقدمت لنا شخصيات نسائية طبيعية متوازنة تخطئ وتصيب تشبههنا بشكل أو بآخر في «بابا جه، كامل العدد +1 ، حق عرب، مليحة»


في فترة ما كان دور الأم محركا في الأحداث الدرامية ومهيمنا على الصراع والحبكة، وفي فترة أخرى تلاشى هذا الدور وكأن واقعنا خلى من الأمهات والجدات، أعادت المتحدة دور الجدة والأم بمختلف أجيالها ضمن الخط الرئيسي الدرامي وليس كشخصية هامشية ويدفعني ذلك للإشادة بمسلسل «كامل العدد +1» الذي قدم لنا الجدة خفيفة الظل بنصائحها الطيبة، والأم الحنونة الطريفة بمشكلاتها المعاصرة في تربية الأبناء. 
دراما الرسوم المتحركة وتحريك عقول أطفالنا.


أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي، وقد أتى مسلسل «يحيى وكنوز» ليصحح المفاهيم التاريخية ويعطي معادلة المعلومة والترفيه للأطفال، يأخذهم في مغامرة زمنية شيقة بين الماضي والحاضر ليصبح في 3 مواسم دراما مفضلة للكبار والصغار، الاهتمام بالتفاصيل والدقة والمرجعية التاريخية بصريا وكتابيا تحسب لصناع هذا العمل، من حقنا أن نفخر بالفريق المصري الذي يقف وراءه بالسيناريو والإخراج والتحريك  والرسم والإنتاج والعمل نفسه بصريا لا يقل أبدا عن أعمال أجنبية منافسة خاصة في تصميم المعارك وحركات البحار والمجاميع حتى  الإسكتشات المرسومة دقيقة تاريخيا في تفاصيل المعابد والملابس. ينضم إليهم هذا العام مسلسل «نورة» الذي يتوجه لجمهور الأطفال برسائل توعوية معبرة عن مشاكلنا في التنمر والهوس بمواقع التواصل ومؤثريها. 


مليحة ومعركة القوة الناعمة دوليا !


أؤمن تماما أن الدراما إحدى أقوى أسلحة القوة الناعمة في مخاطبة العالم الغربي، قصة مسلسل «مليحة» تمثل جانبا بسيطا من واقع مأساوي يعايشه أشقائنا بفلسطين تحت وطأة المحتل، من بداية قصة التهجير الأولى مرورا بأحداث الانتفاضتين وصولا لما نحن عليه، تحاول إسرائيل دوما بأعمالها الدرامية فصل مجازر جيش الاحتلال عن الشعب الإسرائيلي رغم أن الخدمة العسكرية إجبارية على الجميع باستثناء بعض الفئات القليلة وتعمل على إعطاء خط درامي اجتماعي ورومانسي للعلاقة بين المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي لتجعل النشء ينسى الاختلاف السياسي الإيديولوجي الجوهري، ظلت إسرائيل هى المهيمن والمتحكم في السرد لعقود درامية.


رأت المتحدة أنه حان وقت الرد والمواجهة والتفنيد بإنتاج مصري عالمي مبني على أحداث حقيقية يسرد للأجيال المعاصرة القصة من بدايتها، كل ذلك يشكل نقطة قوة ترعب ترسانة الإعلام الصهيوني خاصة حينما تُروى القصة من منظور مرأة بعدة أجيال (جدة وابنة وحفيدة).


(التروما أو الصدمة النفسية) على مدار أجيال  كانت ملعبا دراميا وتيما مفضلة لإسرائيل حيث أجبرت الأحفاد على تبني الهولوكوست والتذكير به في أعمالها الدرامية حتى إذا كان اليهود من مواليد فلسطين أو اليهود من أبناء جنسيات ودول أخرى بعيدا عن بولندا وألمانيا، حتى وإن لم يكونوا لديهم فقيد أو أحد من أسرهم كان ضحية الهولوكوست ، يفضل الاحتلال دوما المتاجرة بالمأساة ويحيا بعقلية الجيتو ويسعى لإيجاد رابط عاطفي (بالعافية والكذب) بين المجتمع الإسرائيلي متعدد الجنسيات والإثنية والطوائف.


مسلسل «مليحة» يصحح المسار ويسرد خطا دراميا تاريخيا بالغ الأهمية وبكل جرأة يضع الهوية الفلسطينية بكل مقوماتها بصدارة الخط الدرامي ويفتت الديباجات الصهيونية التي هيمنت على دراما هذا الصراع.
ما يقلق الإعلام الإسرائيلي هو انطلاق مثل هذه المسلسلات بلغات مختلفة بمنصات عرض دولية تخاطب اليسار الأوروبي و الأمريكي المتعاطف بالفعل مع القضية الفلسطينية إلى جانب تصحيح مسار السرد للأجيال العربية الأصغر بعد عقود حاولت الدراما الإسرائيلية بها من خلال مسلسلات مثل (فوضى (Fauda وغيرها الترويج للتطبيع الاجتماعي والثقافي والفكري مع الكيان الصهيوني. 


ما يزيد رعب إسرائيل أن يفتح مليحة ونسب مشاهدته العالية الباب على مصراعيه لتقديم أعمال درامية تناقش الصراع العربي الإسرائيلي بكل أبعاده طوال العام وتوضح دور مصر بجيشها العظيم في دعم القضية الفلسطينية لأبد الآبدين. فالمصريون لم ولن ينسوا لأن الدراما ذاكرة الأجيال وحافظة التاريخ بجانبه وقد اكتفينا من أن يتحدث أحد آخر بلساننا ويتحكم في أصواتنا ورؤية العالم لنا.


دراما المتحدة رفعت سقف التوقعات عاما بعد عام وليس طيلة شهر رمضان بل بإنتاجها المستمر طيلة السنة الذي يضخ الإبداع بورش سيناريو شبابية وتجارب إخراجية إبداعية خالصة، وختاما اتمنى أن تقتحم المتحدة الدراما الرياضية والسياسية والخيال العلمي ودراما السير الذاتية ودراما المراهقين وأن تستمر في الاكتشاف والتحليق بآمالنا وتطلعاتنا لتتجدد ريادة الدراما المصرية وتنافس نظراءها في أمريكا الجنوبية والدول الآسيوية  والإسكندنافية وتركيا وإسبانيا الذين استطاعوا في زمن قليل أيضا زعزعة هيمنة الدراما الأمريكية على سوق التنافس الترفيهي والدرامي العالمي.