عاطف سليمان يكتب : وهى سماءٌ صغيرة

صورة موضوعية
صورة موضوعية

ما بالُ أهل الأرض تشدههم حكاياتٌ؛ تُثخنهم، وتخلبهم بسحرٍ لا يسعهم منه فكاكاً أو إنهم لا يرجون، بمئة رسالة قصيرة متتالية، من تليفونها، حكت له حكاية الولد الأعرج، فأدركَ أنها رافقت الولدَ الشقيّ فى وحدته، وصابَرَت، ولازَمَتْهُ، وكانتهُ. 

كتبت له أن جُرذان بلدة هاملين كانت قد تكاثرت وتمادت بالاجتراء والإيذاء، فاتفق عمدةُ البلدة مع الزمّار الجوّال على تخليص المدينة من جُرذانها مقابل أجرٍ من ذهب. تهيَّأ الزمَّارُ فى الصباح بثيابه المزركشة وخرج إلى الميدان ونفخَ فى مزماره السحرى نغماتٍ اجتذبت الجرذان التى انطلقت خلفه بلا حذر، فمضى يقودها صوب النهر، وخاض فى الماء وهو يواصل نفْخَ نغماتِه، والجرذان تتبعه إلى حيث غرقت. طالَبَ الزمّارُ بأجره وماطَلَه العُمدةُ، فأعلن تهديدَه بأنه إنْ لم يحصل على الذهب فلسوف يعزف نغماتٍ تجتذب الأطفالَ، ويستدرجهم بها خلفه، ويُدخِلهم فى الجبل ويُوصِده عليهم. نَكَثَ العُمدةُ، ونفَّذَ الزمّارَ وَعِيدَه؛ نافِخاً فى مزماره نغماتٍ تسرَّبت إلى نومِ الأولادِ والبناتِ فأيقظتهم مشدوهين وسحبتهم، بنُعاسِهم، إلى مصدرها، فهرعوا جميعاً مُنوَّمين راكضين خلف الزمّار الذى انعطف بهم حتى أدخلهم فى مغارة الجبل وأغلقها عليهم، منتقماً ممن أخلَّ باتفاقه معه.


اقرأ أيضاً | «مساكن الأمريكان» لفتت إليها الأنظار هبة خميس: تحديت نفسى بكتابة الرواية وأعتقد أننى نجحت | حوار

وقد كان هذا بعضاً، فحسب، من الخاتمة المأساوية للحكاية الشهيرة، ولعل بعضَها غير المعروف بقى أكثرُه من نصيب الولد الأعرج الذى أيقظته النغماتُ هو أيضاً فانطلقَ يظْلعُ خلف الزمَّار مع الآخرين والأخريات، لكنهم سبقوه بسبب بُطئِه، فصار هو الناجى الوحيد، بحسب ما قيل. لكن؛ ما نجاتُهُ! إنه لا يفهمها ولا يأبه بها، هو الذى سالَ أنفُه من البكاء لكونه لم يلحق بأقرانه الذين ذهبوا فلم يذهب مذهبَهم ولم ينعرج انعراجتهم فوق ربوة الجبل، وهو الذى أكْمدته نظراتُ المقت وقصفته همهماتُ الاحتقار والاشمئزاز من أمهات وآباء الأطفال الآخرين وقد تمنوا لو أنه حلَّ محل ذلك الابن أو تلك الابنة فى مصير الغياب، وهو الذى لن يسمع اسمَه يُنادى أبداً إلا بأصوات الكبار بعد أن فَقَدَ جميعَ أصدقائه وكل مُشاكسيه وشركاءَ اللعب، وهو مَنْ سيبقى وحيداً بلا رفيقة ولا أنيس، بعد أن يفنى الكبار.
ردَّ: اجتباكِ الولدُ المنبوذ، اجتبى سماءً له وحده تهجع فيها روحُه.

فى صيف سنتِها الابتدائية الثانية كانت الفتاةُ التى ستصير سماءً صغيرة قد صادفت الحكايةَ فاستوحدت من فورها مع الولد الأعرج، كأنها منذورة له. اعتنقت وِحْدتَه، واقتسبت هواجسَه لحياتها، واعتادت وجودَه فى خيالاتها؛ فلعبت وأكلت وإياه، أجلسته قُربها على مقعد الدرس، وألبسته قفازاتِ الشتاء التى شغلتها لها أمُّها ليقف قُبالتها فى الفسحات بين حصص المدرسة ويصُدَّ كُراتِها المصوَّبة منها، ولقد تماهت معه حتى إنها تعارجت.



أخبرته بأنها عايشت الولدَ حتى إنها أدركت نبرةَ صوته وملامحَ وجهه وحشرجةَ بكائه ونغمةَ ضحكه. أخبرها بأن الولدَ الذى قد صار حتماً إلى تُراب واندثرت ملامحه وغاب صوته منذ قرون لا بد أنه، فى مثواه، قد علِم بها عِلماً ما، والتقى طيفَها هوْناً. أخبرته بأنها تصدِّقه، فأطلق عليها نداءه؛ يا عارجة، فجفلت من الإطراء وأطرقت.

وما من ريبٍ فى أنّ العارجة طالتها حكايةٌ؛ وقد بدا، من نثاراتٍ هنا وهناك، أنّ وحشةً عن أمرٍ مُبهَم بخصوص الصبى الأعرج قد تناهت إليها وتَعْتعتها وعَشّشت لها فى حَبةِ قلبها، ووقَرَ لديها أن واجباً لصالح الأعرج لم يُوَفَّ إليه منذ ثمانية قرون، وأنها بإدراكها فوات ذلك الواجب، فرضت تلقائياً على نفسها أداءَه، وقد لبثت سنيناً لا تدرى كيف تقضيه. لم تغْتم، إلى هذا الحد، لعشرات الأطفال الآخرين المحبوسين إذْ كانوا مأنوسين بعضهم ببعض ضِمن مأساتهم وكذلك كان أهلوهم فى وئامٍ متساندين متضامنين، إلا الأعرج إذْ عَلِقَ وحيداً فى الإقصاء والظلم والمقت والكمد.

فى اليوم الأخير من روزنامة السنة كان هو قد صحا باكراً بمزاج متكدِّر، شاعراً بازدياد جريان السنين، فلم يفطر إنّما أشعل سيجارة ومضى من مسكنه قاصداً ممشى الشاطئ. فى الطريق لَفَتَه شيءٌ صغير أسمر مُطفأ السواد مُلقى على الأرض، فانحنى وناظَرَ والتقطَ ما لم يخطر له على بال؛ جُعراناً حقيقياً حَسَبَه فى البدء منحوتاً، وأدهشته خِفّتُه الفائقة على راحة يده. استولى على لُقيته وعجّل خطواتِه إلى البحر منشرحاً متوتراً، ومن هناك أرسل إليها رسائله الصباحية وأخبرها بالطبع عن الجعران، فجاوبته على الفور: عساها رسالة أو هدية من إيزيس.

وما إن نظرَ بعيداً فى البحر حتى لمحَ قطاراً من دلافين يخطُر عند الأفق فانتشى واندمج فى متابعته، بينما راحت خواطرُه تأخذه إلى أن إيزيس قد استماتت فى الوقوف بجانب ولدِها حورس لنيْل حقِّه من عمِّه وخالِه سِت، وأنها حرصت، فى مؤازرتها لولدها، على تحاشى اقتراف الطغيانِ والافتراء على الخصم، بل انتصرت بقضاء المحاكم لا غير. تفكَّرَ بأن حورس الطفل وُلِدَ فى أحراشٍ منعزلة، ولم يلعب مع أقرانٍ له، ولم يتبدَّ إلا فى صُحبة الكبار بمحاريب المحاكم أو فى حومة الصراع مع العم الغاصِب المفتري. أرسلَ إليها:

أمَا كان حورس، فى مظلوميته رِفقة إيزيس، بمقام أصل الصبيان العرجان؟!
عند الظهيرة، ردّت:
ما هى إذاً بهدية، إنّما تكليف!  
وصفَ لها موكبَ الدلافين فأنبأته بأنها رأتها معه وأنّ بهجةَ الدلافين قد مسَّتها حتى من قبل أن تقرأ كلماتِه فى وصفها. ساءلته وساءلها إنْ كان للدولفين توثيقٌ فى تراث قُدامى المصريين! صنعَ للجعران عُلبة صغيرة من الورق المقوى، وكتبَ عليها «أول يناير 2003» بينما هو يتملّى فى اقتراحٍ خَطَرَ له: 
- لنفترضَ أنّهم قد تركوا مكتوباً عن الدلافين، وأنّ المكتوبَ فحسب محجوبٌ عنّا، فدعينا نحاول سوياً تخمينه، ونتشارك فى محاولة استكناه فحواه، وكتابته! 
- أأخبرتُكَ عن فضولى للتقصّى عن حياة مارية القبطية فى مصر قبل ذهابها؟ فلنتشارك كذلك فى هذا! 
حين كانت فى الرابعة عشرة أمضت شهرين من إجازتها الصيفية لدى أهل أمها فى قرية وسط أريافٍ مورِفة منعزلة، فأطربتها وأبْهَجَتها فى أماسيها نداءاتُ الكروان وأوعزت إلى مهجتها أنها إنّما تتلقّى وتتسمّع صوتَ السماء. وأثناء تجوُّلها اليومى الشامل بأنحاء القرية دخلت إحدى الحارات الطويلة الملتوية فلمحت طفلاً فى السادسة أو السابعة منهمكاً فى ضرْب فأرٍ ميتٍ بمقشة من سُباطة نخيل، فاقتربت وانتزعت المقشة من يده وقرصته. تباكى الولدُ وجَعَّر وتقافَزَ ثم التقطَ حصاةً ورماها بها. كان الولدُ على مسافة متر واحد منها فما قدرت على تفادى الحصاة؛ فلعلها أُصيبت فعلاً إصابةً فى كاحلِها سبَّبت لها عَرَجَاً دامَ لأيام. يا للعرجاء! انطلق الصبى يجرى ويصرخ كالملدوغ واختفى فى دارٍ بمنحنى الحارة. أفلتت هى المقشة، وبقيت تعاين الفأرَ المطروح وهى تفكر بالولد لَكأنها قد تفاجأت بأنه ليس أعرجَ. بعد دقائق أطلَّ الولدُ برأسه من مخبأِهِ وتلفَّت وتأكَّد من رحيل الفتاة، فخرج مُحاذِراً ونقل خطواتِه إلى أن التقطَ مقشتَه ثم قَصَدَ إلى فريسته فلم يجدها، بينما لَمَحَ فحسب النقطةَ الغامقة الثخينة اللامعة حيث كانت الأرض قد تشرّبت قطرةً أو اثنتين من دم الفأر. كان ميقات الضحى قد حلَّ عليها، وانطلق نداءُ كروان فى الأجواء فسكنت حتى شيَّعته وهى متحيِّرة أين يمكنها أن تُوارى الفأر الميت، أكانت تضيق لو نهشه غراب أو طعمه ثعبان؟ أتُراها تذكّرت جرذان هاملين النافقة فى النهر؟ غير أنها يقيناً سوف تتذكر هذا الضحى، بعد عشرين سنة، حين تلتقى حسين بيكار فتسمع فى كنفِه تَجلياً آخر لصوت السماء من معزوفاته على الطنبورينا وترى خطوطَه وألوانه، وتجلس إليه فيسترقُ للوحتِه قسماتِ وجهها ويستنزلُ عليها آلاءً من روحها. 



وقتَ أنْ جلستُ أمامه، وقد أتانى حظِّى ليرسمني، اعترانى خجلُ التوجسِ من نقائصى ومن ضآلة جدارتى بالاستحقاق، لكن نظراتِه وهو يرسم شحذتني، فاستكنتُ وهدأتُ وآنستُ صمتَه؛ وهنالك أبصرتُ الولدَ بيكار والشابَ بيكار وسائرَ بيكاراتِه وأبصرتُ حتى جمجمتَه العزلاء المعراة، وما كان لى أنْ أُبصِر أو أنْ أرى ما رأيتُ لولا أنه هو الذى انبسطَ لى وأتاح!

عرفتُه من لوحاته على أغلفة أجزاء ألف ليلة وليلة، فى الطبعة المغشوشة من دار الشعب، ومن غلاف إحدى طبعات كتاب «الأيام»، وغلاف كتاب محمد عفيفى «ابتسم للدنيا»، ومن رسمة فانوس رمضان بأيدى الصبية والصبي، ومن مُربَّعه بالصفحة الأخيرة لجريدة الأخبار فى أيام الجُمع.

تخفَّفت ريشةُ بيكار، على بيِّنةٍ، من استعراض القُدرة ومهارة التفنُّن إلى الإشعار بالطِّيبة ومقاربة البساطة؛ فما أعماله إلا صنائع لطيفة صادرة من إنسان طيب يحيا فى وحدةٍ لا يبتذلها ويرتضى غُربةً لا يتشكّى منها، وهو إنْ يرسم لا يُنهى وِحدتَه وغربته، ولا يُغالب اِستيحاشَ أى إنسان آخر وإنما تستوى رسوماتُه موطئاً، مثل مُصلّى على شاطئ ترعةٍ ريفية، قد يأنس به مَن يتغشّاه.

يتبدّى سلـﭭـادور دالى نقيضاً فاقِعاً من بيكار، ولربما يتجلّى التشابهُ أو التماثُل من حيث يفرط التناقضُ. ولئنْ كان دالى قد عَهَدَ إلى أحدٍ بلوحةِ النرجس فإليها، وكانت هى بأواسط عشرينيات عمرها، بتمام شَعرها الفاحم، حين تلقّفتها منه وورثتها عنه. وإذْ ذاك ركبت الطائرة وحلَّقت وحطَّت وألصقت نُسختَها من لوحة النرجس بحائط غرفتِها فى بيت الطالبات الأجنبيات للدراسة العليا بالجامعة الأوربية، تدرسُ وتتحرّى الأدبَ والكتابةَ وتسبرُ نفوذ الحكايات والخرافات على الإنسان، وكلما ألمَّ بها حنينٌ تتمشّى على شاطئ النهر الرمادى الجارى بالمدينة، متحصِّنةً ببعضٍ من ڤـرجينيا أو إليوت، ثم تشترى فطيرةَ ڤـانيليا ومخبوزاتٍ مقرمشات بطريق رجوعها إلى محرابها بالسكن الطلّابى حيث يتلقاها ويُسْكِرها شذا مُتَخَفٍّ كأنه من برتقالٍ يتضوّع فى الخُلْد. تطلُّ عليها، فى السهر، أطيافٌ مجلوبةٌ من تلافيف دماغها أو من طوالعِها أو من حيث لا تدري، ويحلُّ الولدُ الأعرج عليها مثلما حلَّ أول مرة ويُوحى بأنه سيكبر ويأتيها ويغدو حبيبَها، خاطِبَ وِدادِها، عريسَها، ساكِنَها. يبتردُ الطقس ويتراكم دوماً الصقيعُ والثلج خارج نافذتها، وتكون هى حارّةً بخديْن وردييْن تنبُش فؤادَها وتأخذ العهودَ على نفسها، تؤلِّف سبيلاً أو تسْتكْنه إيماناً سُكِنت به منذ أزلها لا إجهارَ له ولا تبشيرَ به ولا رفقاءَ لها فيه. يشتد هبوبُ الريح على نافذتها كأنما للتذكير بالحاجة إلى الاحتماء؛ ويُجبرها علوُّ الصوت على السكون، وفى إنصاتها تتكهَّن بنغمات الزمّار الجوّال التى استدرجت الأطفال وتتعرّف عليها فى طيّات صفير الريح.

وفى ما لا يُحصَى من الليالى تبيتُ عاكفةً؛ تغرسُ زهرةَ نرجس فى روحها، وتواليها بجهادها، وترعاها بإتقانها وبوَرَعِ فؤادِها، وتُفشى لها سريرتَها. ولطالما نسيتْ مصباحَ غرفتها مُضاءً وهى تستظهر من الشِّعر نفحاتٍ تتلوها على زهرتها، والخَلْقُ السّاجى بالدنيا يتسمَّعُ منها تمتمات تلاواتِها، ويعرفُ عنها، ويلتئمُ بها، فما كانت أبداً وحيدةً كما ظُنَّ؛ وإنْ دامت متوحِّدةً بصِفَةِ أنها هى الغارِسة وهى الْغَرْسَة وبصِفة أنها ذات الرداء الزجاجى الذى لا يُشابِه الرداءَ الأسود، ولا الأحمر ولا الأردية. تُلوِّح لها كلاريسّا باليدين الإثنتين كأنه وداعٌ طفيف تلتقيان بعده لاحقاً بحفلة المحتفلين فى معقل السيدة ڤـرجينيا، تردُّ بإيماءةٍ وهى تقول لنفسها إنها ستكتب هذا طُراً فيما بعد، باصطبارٍ، باصطبارٍ أَيوبيٍّ، فى غُرفةٍ تخُصُّها، على قُربٍ من شاطئ النيل، تحت نظر سِيا هذا المبجَّل فى العصور المصرية العَليَّة، ربِّ المعرفةِ اللُّدنية والحذق الكونى والعقل الجامع، وبمباركته ستُنشئ بَصمتَها ولُغتَها وصفحةَ كتابِها.

وتطفر دمعةٌ تتخالطُ مع نرجسةٍ تتندَّى وتترقرقُ فى عِزِّ حُضنِها ودفئِه، ناشرةً عبيرَها لها، هى التى وعت بالمبتدأ، منذ أن تنشَّقت فى طفولتها رائحةَ البرتقال المسحورة التى دأبت أمُّها على دسِّها فى المناشِف، أن الروائحَ هى التى تبقى.
 
انزلقَ مسمارُ مقصِّها الصغير واختفى من علبة زِينتها فانشغلت بضياعه وداومت البحثَ عنه ولم تتقبّل استبدالَه، وما كان لديها دراية آنذاك بأنها تُساوِق شريعةً من لورانس داريل الذى كان قد كتبَ فى رواية جوستين مشهداً على شاطئ بحر إسكندرية ظهرَ فيه بلتازار وهو ينقِّب فى رمال الشاطئ عن مفتاح ساعته الذى كان قد سقط منه للتو واختفى، غيرَ مستسيغٍ أن تؤخذ الساعة إلى الساعاتى لتركيب مفتاح بديل؛ شارحاً أن للساعة مفتاحاً يخصُّها يجب استعادته هو بالذات إليها. راغ مسمارُ مقصها الصغير روغانَ مفتاح ساعة بلتازار، فلُوحِقت، تحبُّباً، بلقبٍ نحتته وتغامزت به بعضُ زميلاتها اللائى يُصادِقنها لكنما يضجرهن تَكتُّمُها فى مسامراتهن:

ذاتُ الرداء الحديدي!
ووراء الحوائط بدا أنَّ هناك مَنْ يتوَشْوَشن فى النميمة ويستفهمن:
ما لها البرنسيسة المصرية، هذه النمكيّة، يُعييها أنْ يفقدَ مقصٌ صغيرٌ مسمارَه؟!
كيمي. اسمُها السِّريّ كيمي، لكنها تبدو وكأن اسمَها سلـﭭـيا بلاث!
 ماذا تُراها إذاً تُغالِبُ طيلةَ لياليها حتى إنَّ مصباحَ غرفتِها لا يُطفَأ!
ما كان من النادر أنْ يُفاجأ بقدرته على النفاذ إلى خواطرَ لها لا تُفصح هى عنها، وكذلك التقطت هى تداعياتٍ تتسارع فى لُبِّه قبل أن يُتِم حتى إلمامَه بها. يخايلُها طيفُه الأليف، والألفةُ دمٌ لا مرئي؛ لو أننا نلتقى كل يوم فى العاشرة مساءً بمكانٍ ما خارج نِطاق الأرض والأفكار فسأكون بانتظاركِ يا عارجة حيثما تحطِّين. تبكى وتضحك وهو يُحادثها ويُناصِرها، إلى أنْ أتاهُ صمتُها مثلما أتته جلبةُ دمائها فى حناياها. لم تنم الليلَ، ولأيامٍ لم تأكل؛ معلولةً من تربُّص مخالبِ الديدان بالزهرة ومن نَهمِ الأفواه الضئيلة وشَرهِها بالأجساد الدافئة. طلبت أن يقدّم إليها وعْدَه مُقدَّماً، فوعدَها. إنْ قضت يتولَّى هو التصرفَ بجثمانها ويذروه فى النهر عند أخميم.

حادى بادى كُرنب زبادى فمَن عساه يسْبرُ الزمنَ بما يتملّك من طاقةٍ فُضلى للحكي! الروحُ مندفعةٌ مثل هديرِ بوقٍ عتيق فى الأنحاء، والعارجة، ذاتُ الحق وذات الحقيق، تركِّز كيانَها فى رؤيا استوفت تفاصيلَها ‏على مدى سنوات، وهى تتعشّم فى أنها قد تُكافأ فتشهدُ فوق التل باكورةَ الحياة وترى الزهرةَ صاعدةً فى النهر مترقرقةً بالنسيم الأول.‏