شهيد فوق العادة

صورة موضوعية
صورة موضوعية

مع أننى لا أحب مشاهد القتل والدماء فقد جلست أشاهد مقطع الفيديو الذى يظهر فيه ضابط أمريكى يدعى «آرون بوشنل» يتحرك بثبات وثقة نحو سفارة الكيان الصهيونى فى واشنطن ليضرم النار فى نفسه ثم يصرخ بأعلى صوته «الحرية لفلسطين». ظل الرجل ثابتا فى مكانه رغم انتشار النار فى جسده يصرخ لفلسطين ثم يصرخ من الألم دون أن يتحرك حتى احترق جسده بالكامل فى مشهد يبدو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.

كانت آخر كلماته قبل أن يضرم النار فى نفسه: «أنا عضو نشط فى القوات الجوية الأمريكية، ولن أكون متواطئا بعد الآن فى الإبادة الجماعية، أنا على وشك المشاركة فى عمل احتجاج شديد القسوة، ولكن بالمقارنة مع ما شهده الناس فى فلسطين على أيدى محتليهم، فهو ليس قاسيا على الإطلاق، وهذا ما قررت طبقتنا الحاكمة أنه سيكون طبيعيا».

اقرأ أيضاً | من يكتب الزمن الفلسطيني وروايته في غزة؟

وقال أيضا عبر صفحته على الفيسبوك قبل أن يقدم على هذا العمل: «كثيرون منا يحبون أن يسألوا أنفسهم، ماذا كنت سأفعل لو كنت على قيد الحياة أثناء العبودية؟ أو فى ظل نظام جيم كرو الجنوبي؟ أو الفصل العنصري؟ ماذا كنت سأفعل لو كان بلدى يرتكب إبادة جماعية؟، الجواب هو أنك تفعل ذلك الآن».

سيطر مشهد هذا الرجل وموقفه البطولى على نفسى وعقلى وروحي، فأخذت اتصل بأصدقائى ومعارفى أحدثهم بحماس شديد عن هذه البطولة الاستثنائية، التى قلما يجود الزمان بمثلها، ولكننى فوجئت ببعضهم يقول لى إن هذا الرجل ليس بشهيد ولن يجزى على عمله. شعرت بالألم والأسى والإحباط وجلست لفترة طويلة أفكر فى هذا البطل وفى رد فعل بعض الناس إزاء بطولته حتى غلبنى النوم فاستسلمت له، ولكن روحى ظلت معلقة بما شاهدت وما سمعت. 

ويبدو أن روحى حين تحررت من عقالها اتصلت بالسماء فرأيت فى منامى أننى أجلس وأمامى سيدة تبدو فى العقد الرابع من العمر عليها علامات الإيمان والهدوء والطمأنينة، وكأنها تجلس فى الجنة فرحة بمصيرها مطمئنة به راضية عنه، ولكننى كنت أعرف أنها «الشهادة» التى ينالها كل من صدق فى إيمانه وأخلص فى جهاده من أجل الحق. 

سألتها عن الضابط الأمريكى الذى أضرم النار فى نفسه احتجاجًا على حرب الإبادة الجماعية فى غزة: أين هو الآن، فالبعض يقول إنه مع المنتحرين الذين خسروا دينهم ودنياهم، والبعض الآخر يقول إنه مع الشهداء والأبرار والصديقين؟ 
نظرت إليَّ بابتسامة ساخرة وقالت: مع المنتحرين! أحقاً قالوا ذلك؟! بالأمس أقيم حفل كبير على شرف استقباله حضره كبار الصحابة والتابعين والشهداء، وكانوا يتسابقون لتحيته والاحتفاء به ويفسحون له مكانا فى الصدارة بينهم. وقد نظر إليه بإعجاب وتقدير شديد صحابى كبير، عُرفَ عنه شجاعته وقوته وبسالته فى قتال المشركين، فقال له: لقد نظرتُ إلى صنيعك فاستصغرت كل حروبى وجهادى فى سبيل الله، وتمنيت أن لو كنت مكانك فأجود بنفسى كما جدت بها. لقد صنَعتَ فى لحظات معدودة ما يعدل جهاد مائة عام.

قال له أحد الشهداء: إننا نغبطك ونتمنى لو رُددنا إلى الحياة فنصنع صنيعك. 
وقال آخر: لقد استشهدتُ دفاعًا عن دينى وقومى وأهلي، أما أنت فقد قدمت روحك فداء لقوم مستضعفين مقهورين ليسوا بقومك ولا بأهلك ولا هم على دينك، بل إن بلدك وقومك يناصبونهم العداء، ورجال دينك وقومك يرونهم ليسوا على دين. 

وقال ثالث: لقد استشهدنا ونحن نقاتل وأعيننا على الحسنيين: النصر وما يجلبه من خير الدنيا أو الشهادة وما تجلبه من خير الآخرة ونعيمها، أما أنت فقد نظرت إلى الآخرة فقط، نظرت إلى إحقاق الحق فقط، ونصرة المستضعفين المضطهدين المقهورين فقط، فلم يكن لديك أدنى أمل فى الدنيا، ولا سعى لها بل قضيت عليها بيديك راضيا مرضيا بإذن الله، رغم أنك كنت شابا فى عز الشباب وضابطا فى جيش أكبر قوة وأعظم حضارة فى العالم.   

قال له رابع: أنت الفطرة النقية الطاهرة التى فطر الله الناس عليها، تتجاوز الحدود والأديان والانتماءات والقوميات لتنفذ إلى صلب الإنسان وجوهره، الإنسان الذى قال رسولنا الكريم عنه مبلغا عن رب العزة إن حرمته أكبر من حرمة الكعبة المشرفة، قلت للشهادة: ولكنهم يقولون إنه ليس مسلماً والشهادة للمسلمين خاصة. 

فردت عليَّ باستغراب شديد: وهل كان النجاشى ملك الحبشة على دين الإسلام حين استجار به رسول الرحمة والإنسانية ليحمى المسلمين والدعوة الإسلامية؟ وهل كان على دين الإسلام حين أنصف المقهورين المضطهدين الذين أخرجوا من ديارهم ورفض تسليمهم للكفار، وهل كان على دين الإسلام حين صلى عليه ودعا له خير الخلق أجمعين؟ وهل تظن أن الحق لا ينصره ولا يدافع عنه ويحميه إلا مسلم؟ إن الإسلام هو آخر رسالات السماء إلى أهل الأرض وهو الدين الخاتم وهو دين الفطرة الصحيحة، والدين الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن فرق بين الدين الذى لا يقربه الباطل ولا يمسه بسوء، وبين أتباعه الذين يصيبون ويخطئون، ويحسنون ويسيئون، وتصفو ضمائرهم وتخلص نواياهم مرة فيعرفون طريق الله، وتتكدر وتتعكر بالشهوات والأغراض مرة أخرى فيخطئون طريقه عز وجل.. إن الإسلام نفسه لا يجعل الحق والطهر والصلاح حكرا على المسلمين، لأن الفطرة الصحيحة التى تحمل الإنسان على حب الخير وفعله وإنكار الشر وتركه قد تصادف غير مسلم وتخطيء المسلم، وكم من مسلم على مر التاريخ أضرَّ بالإسلام والمسلمين والدنيا أكثر مما ضرها المشركين والكفار والملحدين. وكم من غير مسلم نفع الدنيا والإسلام والمسلمين بما لم يقدر عليه مسلم. إن الله هو العدل المطلق والرحمة الواسعة ولن يغمط -عز وجل-أحدا حقه مسلما كان أو غير مسلم، قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).

قلت لها: يقولون إنه قتل نفسه ولم يقتل فى حرب.
قالت: لقد فاق من يُقتلون فى الحرب جرأة وشجاعة وإخلاصًا للحق، فإذا كان من هؤلاء من قاتل لوجه الله وابتغاء مرضاته، فمنهم أيضا من قاتل حمية، ومنهم من قاتل مكرها اتقاء العقوبة، ومنهم من قاتل طمعا فى المغنم، ولكن آرون لم يكن لمقتله وجه سوى وجه الله، وليس فى صنيعه ما يمكن أن يحمل على غير هذا الوجه، وغير هذه النية الخالصة لله تعالى. ثم ما قولك وقولهم فى الرجل الذى هاجر إلى المدينة ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابه مرض فجزع ثم قتل نفسه، فرآه صاحبه (الطفيل بن عمرو) فى منامه وقد غفر له الله- عز وجل- لهجرته، فقص ذلك على نبى الرحمة فدعا له بالمغفرة. (الحديث فى صحيح مسلم بشرح النووي- ج2 ص 130).

قلت لها: أين هو الآن؟
قالت: بعد أن احتفلنا واحتفينا به وجدناه يتحرك بهدوء وسكينة نحو مكان كأنه يعرفه من قبل، مكان محجوز للنخبة الممتازة من الشهداء، فالشهداء عندنا درجات، وقد استقر فى أعلى درجة من درجات الشهادة، وهو الآن فى نعيم لو علمه أهل الأرض لتسابقوا على فعل ما فعل، ولقدموا الشهادة على نعيم الدنيا.