أتوموبيل الفن

مدحت عبدالدايم يكتب: صرخة حليم والأبنودي تهز جبهة القتال

مدحت عبدالدايم
مدحت عبدالدايم

■ بقلم: مدحت عبدالدايم

«إن إسرائيل هى صنيعة أمريكا» على حد تعبير عبد الناصر، وإذا كانت بريطانيا قد منحتها دولة فى الشرق الأوسط، فإن أمريكا الداعم الحقيقى لتلك الدولة الصهيونية، التى لم تكتف بما مُنحت من أرض بل راحت تمارس سياستها التوسعية، باحتلال المزيد من البلدان سعيًا إلى إقامة دولتها المزعومة «من النيل إلى الفرات» وفى سبيل تلك المطامع خططت لحرب يونيو 1967، وكبدت دول المواجهة العربية خسائر فادحة، كما وضعتها فى مأزق سياسى وعسكري، وحين تحدث عبد الناصر عن إزالة آثار العدوان لفت إلى ما هو أخطر: «عندما نتكلم عن إزالة آثار العدوان لازم نفهم أطراف وأبعاد إزالة آثار العدوان.. والمسألة كبيرة جداً، وخطيرة؛ لأن أمريكا أيدت إسرائيل، ساعدتها فى الأمم المتحدة، وأعطتها الأسلحة، وأعطتها المعونات المالية، وبمقدار كبير وخطورة الموضوع، بمقدار ما يحتاجه من تكاليف وتضحيات، المسألة مش مسألة حل أزمة الشرق الأوسط، المسألة هى نوعية الحل، شرف الحل، شرفنا، مستقبلنا، ومصيرنا». 

وكثيرًا ما ندد عبد الناصر بذلك الدعم الأمريكى غير المحدود لإسرائيل، وهو دعم لا شك يحدث خللًا كبيرًا فى موازين القوى بين الدولتين، دولة تتلقى دعمًا أمريكيًا وغربيًا لا سقف له، وأخرى تقاتل باستمرار من أجل الدفاع عن الأرض والمصير، مشيرًا إلى أنه إبان حرب الاستنزاف تعرض جنودنا على الجبهة لغارات جوية يومية تنفذها ١٥٠ طائرة أو ١٨٠، وأن هذه الطائرات هى صناعة أمريكية، طائرات «الفانتوم» وطائرات «السكاى هوك» ولم تكن هذه الطائرات لدى إسرائيل قبل العدوان، ولكن أمريكا سلمتها إلى إسرائيل عام ١٩٦٩، وأن هذا الدعم يعني: «أن أمريكا تؤيد إسرائيل فى أن تفرض شروطها على الأمة العربية، وإذا لم تقبل الأمة العربية هذه الشروط فإن الطائرات الأمريكية ستدك المصانع والمنازل وكل شيء، ولكننا قلنا رغم هذا إننا لن نوقف إطلاق النار وسنستمر فى معركتنا ولو دمروا بيوتنا.. ولو دمروا مصانعنا».

والأمر لا يخفى على كل ذى عينين قبل 1967 وبعدها، لذا فإن الشاعر عبد الرحمن الأبنودى (11 أبريل 1938 - 21 أبريل 2015) لم يكن ليغفل عن هذه الحقائق التى جلاها عبد الناصر فى كثير من كلماته إلى الشعب العربى، التى انطوت على دلالة واحدة هى أن أمريكا حليف إسرائيل الأول وداعمها الأكبر على حساب العرب جميعًا، يلتقط الأبنودى الخيط مطالبًا الجنود فى معارك الشرف والإباء بتحقيق النصر على أعداء الحياة، يقول إن عبد الحليم حافظ (21 يونيو 1929 - 30 مارس 1977) استدعاه على وجه السرعة ليقيما معًا فى بيته وفى مبنى الإذاعة والتليفزيون لينالا شرف الغناء لمصر جيشًا وشعبًا فى معركة الصمود والتحدى، وليصدح صوت العندليب مخاطبًا الأبطال من الجنود بكلمات الأبنودى، وألحان المبدع الثائر كمال الطويل، وتوزيع الفارس الكبير على إسماعيل: «ابنك يقولك يا بطل هاتلى نهار.. ابنك يقولك يا بطل هاتلى انتصار.. ابنك يقول انا حواليا الميت مليون العربية.. ولا فيش مكان للأمريكان بين الديار» إن أولئك الجنود يعرفون حتمًا الطريق إلى النصر، مثلما يعرفون الأعداء والأصدقاء،بميزان الثورة الملهمة التى رسخت تلك المبادئ لدى الشعب العربي: «ابنك يقولك ثورتك عارفة الطريق.. وعارفة مين يابا العدو ومين الصديق.. ثابتة كما الجبل العتيق حالفة ع الانتصار».

بصحبة الأبنودى وصل حليم إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون فى سيارته "الأريزونا" البيضاء، وفى ستوديو الإذاعة عكف على تحفيظ الفرقة الموسيقية لحن الأغنية بإيقاعاته الثورية المدوية، فيما توقفت سيدة الغناء العربى أم كلثوم أمام الأستوديو وأرهفت السمع إلى صوت حليم الهادر، فقالت لوجدى الحكيم: «أنا عايزة أغنى اللحن ده» فقال لها: «أكلم الصعيدي» فردت: إنه لا يحبنى، وكان قد رفض أن تغنى له من قبل كلمات أغنية أقنعها بها بليغ حمدى تقول:«بالراحة يا حبيبى كلمنى بالراحة.. دا أنا مشيت ياما علشان أشوف راحة.. يا مالينى حنية ومودة وسماحة.. عايز تريحنى كلمنى بالراحة» ورفض الأبنودى ذلك التعاون معربًا عن رغبته فى أن يكتب للست عملًا آخر جديرًا بفنها «لكن الست اعتبرت ذلك هروبًا وصلفًا.. وتكرر ذلك معها حينما طالعت كلماته عن ثورة اليمن منشورة بإحدى الصحف، فكلفت حسنى الحديدى رئيس الإذاعة فى ذلك الوقت بإبلاغه عن رغبتها فى غناء تلك الكلمات، لكنه أبلغه بموافقته شريطة أن تغنيها بلحن صديقه عبد العظيم عبد الحق، وكان قد كلف الأبنودى بكتابتها ليقدمها لإذاعة اليمن، ورفضت كوكب الشرق شرط الأبنودى، وهاهو وجدى الحكيم يصارحه برغبة الست فى سحب الأغنية من حليم أثناء البروفات، فرفض قائلًا: «لا أستطيع أن أفعل ذلك، فأنا حليمى الهوى ومن الجنون أن أغامر بصداقتى معه لأى شيء، ولن أكون طرفًا فى المعركة الدائرة بين الست وحليم».
غنى حليم للأبنودى 17 أغنية، هي: «ابنك يقولك يا بطل، أحلف بسماها، أشجع رجال، راية العرب، صباح الخير يا سينا، يا استعمار، يا بركان الغضب» من تلحين كمال الطويل، «التوبة، المسيح، الهوى هوايا، عدى النهار» لبليغ حمدى، «أحضان الحبايب، اضرب لمحمد الموجى، «من قلب المواكب، يا بلدنا لا تنامي» لإبراهيم رجب، "الفنارة» لعبد العظيم محمد، «بالدم" لعلى إسماعيل، وإذا كان النصر قد تحقق فى أكتوبر 1973 على إسرائيل وحليفتها أمريكا، فإن ما لا يمكن نسيانه بحال أن عبد الحليم حينما علم بخبر النكسة كان يسجل هذه الأغنية، ورفض أن يتوقف عن الغناء قائلًا: «خسرنا جولة فى معركة، لكن مصر لم تمت" ولكنه وبعد التسجيل سقط أرضًا وأصابه النزيف، وتحولت الغنوة إلى أيقونة من أيقونات أغانى حرب الاستنزاف المجيدة المحفزة على تحقيق النصر فى جبهة القتال والجبهة الداخلية، يقول الأبنودي: "فى مارس 2003، شرعت صوت الفن فى طبع تلك الأغنيات الوطنية وقوبلت بالصد والمنع، وأخيرًا وافقوا على طبعها بشرط أن ترفع منها تلك الشطرة «ولا فيش مكان للأمريكان بين الديار» التى نحن الآن فى أشد الحاجة إلى وجودها فالواقع يستدعيها فى كل لحظة، ونحن على أعتاب ذبح العراق بنفس السلاح الأمريكى، وتكررت المأساة فى سوريا وغيرها من الأقطار العربية الشقيقة» وسُفك الدم العربى بسلاح الغدر الأمريكى، وكانت الدولة الأولى المسارعة إلى نقل سفارتها للقدس المحتلة، تمهيدًا لأن تحذو دول العالم حذوها، ورغبة فى تصفية القضية، وها هى غزة تُقصف نهارًا جهارًا بالسلاح الأمريكى مجددًا، وبفعل الفيتو الأمريكى قوضت مساعى رفع الحصار ووقف جرائم الحرب والإبادة اليومية، فيما صدقت صرخة عبد الحليم/ الأبنودي/ عبد الناصر/ الشعب العربى.. «ولا فيش مكان للأمريكان بين الديار»، وستبقى مدوية ما بقى الانحياز الأمريكى للعدوان الإسرائيلى الغاشم.