سلسلة «كلمات ربي وآياته في القرآن والكون».. «اقرَأ»

 الدكتور أحمد فؤاد باشا
الدكتور أحمد فؤاد باشا

تواصل بوابة أخبار اليوم نشر سلسلة "كلمات ربي وآياته في القرآن والكون" للأستاذ الدكتور، أحمد فؤاد باشا (عضو مجمع اللغة العربية) وحلقة اليوم عن كلمة { اقرَأ}.

فيقول: استخدم القرآن الكريم صيغة الفعل "قرأ" ماضيًا، ومضارعًا، وأمرًا، مجردًا ومزيدًا بالهمزة، مبنيًّا للمعلوم وللمجهول، كما استخدم المصدر "قرآنًا" في آيتين متتاليتين: 17، 18 من سورة القيامة.

واستهداء ببعض معاني الأمر الإلهي "اقرأ" الذي يرقي إلى مرتبة التكليف لبداية أي منهج إصلاحي، ندعو إلى ضرورة استئناف المشروع الحضاري لنهضة الأمة الإسلامية بإصلاح الفكر وترشيده.

وقال إن إصلاح الفكر وترشيده إسلاميًّا إنما يتم أولاً بالتأصيل له في السياق التاريخي الشامل، ثم بتصحيح ما شابَهُ من مغالطات عبر مراحل تطوره، وتنقيته من أي مفاهيم غير إسلامية، وأخيرًا بتوجيهه نحو هدف أسمى، وفق مرجعية إسلامية رشيدة تُعين الإنسان على أداء أمانة استخلافه في الأرض حتى يستكمل حكمة الله – تعالى – من خلقه وخلقها، وذلك بإعمارها وترقية الحياة عليها، وتحقيق تمام الانتفاع بخيراتها، ومدّ جسور الأخوّة والتعاون مع بني الإنسان في كل مكان على الأرض، بعد أن سخر الله – تعالى – له كل ما في الكون من نعم ظاهرة وباطنة لينتفع بها ويمجد بانتفاعها رب العالمين.

فالترشيد الإسلامي للفكر الإنساني إذن هو ذلك المشروع الحضاري الذي يهدف إلى حسن فهْم وترتيب العلاقة السليمة بين ثلاثية عناصرها: الدين، والكون، والإنسان، وذلك في معرض الحث على النظر في هذه العلاقة على ضوء التصور الإسلامي المستمد من كتاب الله الكريم وسنة نبيه الأمين – صلى الله عليه وسلم – أو صياغة ما يمكن أن نسميه "النظرة الإسلامية للعالم" The Islamic Worldview، كما تصوره حقائق (معطيات) العلم المعاصر.

وهكذا فإن الخطوات الإجرائية لترشيد الفكر الإنساني إسلاميًّا تجمعها معادلة "التاءات الخمسة" على الصورة:
الترشيد الإسلامي = التأصيل + التصحيح + التنقية + التوجيه، حيث تتفاعل معطيات كل حدّ Term من حدود هذه "المعادلة المعرفية" في العقل المسلم بصورة تعينه على الترقي المستمر في عطائه الحضاري نحو الهدف الأسمى. أي أن الترشيد الإسلامي، بعبارة أخرى موجزة، هو "منهاج يُتَّبعُ ووجهةٌ تُولىَّ شطر الهدف الأسمى".

ولقد استند المسلمون الأوائل في اصطناعهم لمنهج الإصلاح على أساس العلم إلى ثوابت إيمانية فكرية تنطلق من مبدأ التوحيد الذي قررته أول ما نزل من آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (سورة العلق: 1)؛ ومن ثم فطن المسلمون الأوائل إلى الحكمة من جعل التوحيد الكامل الخالص لله – تعالى – وارتباطه بالقراءة (العلم)، أول الثوابت الإسلامية، وأصلاً من أصول الدين الإسلامي، يتحقق به صالح مجموع الأمة، وإقامة أمر الإسلام، وإعلاء كلمة الله في الأرض. وبدأ علماء المسلمين من هذا المبدأ الأصيل مسيرة "اقرأ" الإصلاحية للتعرف على آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، مصداقًا لقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة فصلت: 53).

وعندما اختار مؤرخ العلم "چورچ سارتون" في كتابه الشهير "تاريخ العلم" أن يجعل هذا التاريخ مقسمًا إلى فترات، كل منها نصف قرن، ربط كلاًّ منها بشخصية علمية بارزة، وبدأ بعصر أفلاطون (450-400ق.م)، ثم يليه عصر أرسطو، فأوقليدوس،.. إلى أن وصل إلى مرحلة الحضارة الإسلامية فقسمها إلى عصور جابر بن حيان، والخوارزميّ، والرازي، والمسعودي، والبوزجاني، والبيروني... ولم تبدأ الأسماء الغربية إلا بعد عام 1100م بمشاركة علماء مسلمين مثل ابن رشد والطوسي.. ولم يبدأ خروج علماء المسلمين من حلبة السباق إلا بعد عام 1400م، باستثناء بعض الحالات الفردية العرضية من التألق في النشاط العلمي.

وخلال القرون الستة الأخيرة أخذت فجوة التخلف بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون في الاتساع والتعاظم.. وأصبحت أمتنا العربية والإسلامية الآن بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن تظل قابعة في أسر الجمود والتراجع والانحسار، واستمراء حالة العيش مع المتفرجين، وإما العمل على اجتياز هذه الحال للحاق بركب المتقدمين والإسهام في حضارة العصر بنصيب يتناسب مع تاريخهم المجيد. وليس هناك من شك في أن الخيار الثاني يرقي إلى مستوى الفريضة الإسلامية التي يتحقق بها النهوض الحضاري المنشود، ومن هنا تصبح الحاجة ماسّة إلى استئناف مسيرة {اقرَأ}، مع الأخذ في الاعتبار فارق العصر وتطاول الزمن. فالإسلام الحنيف حين يطلب أن يبدأ الإصلاح والبناء الحضاري على أساس العلم؛ ويدعو الإنسان في أول ما نزل من آياته الكريمة إلى القراءة والتدوين، إنما يكلفه بأمر في أصل فطرته وطبعه، لأنه بدون العلم لا تتحقق أمانة الاستخلاف كما أرادها الله سبحانه وتعالى.. وقد بدأ القرآن الكريم بهذا الأمر ليضعه في بؤرة اهتمام الإنسان وإدراكه ووعيه، وليعود إليه كلما انحرف عن جادة الصواب والغائيّة.

اقرا ايضا | أحمد عمر هاشم يوضح سر الحروف المتقطعة في القرآن الكريم