مع حلول العشر الأواخر من رمضان 2024 .. كل ما تريد معرفته عن الاعتكاف

الاعتكاف فى رمضان
الاعتكاف فى رمضان

مع حلول العشر الأواخر من رمضان 2024 يلجأ الكثير من المسلمين لـلاعتكاف في شهر رمضان  للتقرب إلى الله واغتنام فضل الليالي الأخيرة من شهر رمضان.

السنة اعتكاف العشر الأواخر من رمضان؛ تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك.

اقرأ أيضا| ملتقى "رمضانيات نسائية" بالجامع الأزهر يبين الدروس والعبر من غزوة بدر الكبرى

- معنى الاعتكاف في اللغة والشرع
الاعتكاف لغة: القيام على الشيء والمواظبة عليه والملازمة له.

وشرعًا: اللبث في المسجد بنيةٍ مخصوصةٍ، على صفة مخصوصة.

- الأدلة على مشروعية الاعتكاف

والدليل على مشروعيته: الكتاب والسنة وإجماع الأُمَّة:
فمن الكتاب: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187].
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (3/ 114، ط. دار المعرفة): [فالإضافةُ إلى المساجدِ المختصةِ بالقُرَبِ، وتركُ الوطءِ المباحِ لأجله دليلٌ على أنه قربة] اهـ.
ومن السُّنة: حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتكفُ العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده" متفق عليه.
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على استحبابه، وأنه لا يجب إلا بالنذر.
قال الإمام ابن المنذر -فيما حكاه الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/ 186، ط. مكتبة القاهرة)-: [أجمع أهلُ العلم على أن الاعتكافَ سُنَّة لا يجب على الناس فرضًا، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرًا؛ فيجب عليه] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (6/ 475، ط. دار الفكر): [الاعتكاف سنة بالإجماع، ولا يجب إلا بالنذر بالإجماع، ويستحب الإكثار منه، ويستحب ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من شهر رمضان] اهـ

- الأوقات التي يجوز فيها الاعتكاف

الاعتكاف مشروع في جميع السنة، ويتأكَّد في رمضان، ويزيد استحبابه في العشر الأواخر من رمضان؛ إحسانًا لختام الشهر، وتحريًا لليلة القدر؛ فيكثر المسلم من القيام في هذه الأيام، ويشتدُّ في الاجتهاد في العبادة والذِّكْر وقراءة القرآن؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ" متفق عليه.

- حكمة مشروعية الاعتكاف

حكمة مشروعيته -كما يقول الإمام السرخسي في "المبسوط" (3/ 115)-: [تفريغ القلب عن أمور الدنيا، وتسليم النفس إلى بارئها، والتحصُّن بحصن حصين، وملازمة بيت الله تعالى.
قال عطاء: مَثَل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم، فيجلس على بابه، ويقول: لا أبرحُ حتى تقضيَ حاجتي، والمعتكف يجلسُ في بيت الله تعالى، ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي، فهو أشرفُ الأعمال إذا كان عن إخلاص] اهـ.
ومن محاسنه -كما جاء في "الفتاوى الهندية" (1/ 212، ط. دار الفكر) في فقه الحنفية-: [تسليم المعتكفِ كُلِّيَّتَه إلى عبادة الله تعالى في طلب الزلفى، وتبعيد النفس من شغل الدنيا التي هي مانعة عما يستوجب العبد من القربى، واستغراق المعتكف أوقاته في الصلاة إما حقيقة أو حكمًا؛ لأن المقصد الأصلي من شرعيته انتظار الصلاة بالجماعات، وتشبيه المعتكف نفسه بمن لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وبالذين يسبحون الليل والنهار وهم لا يسأمون، ومنها اشتراط الصوم في حقه والصائم ضيف الله تعالى] اهـ.
وفي الاعتكاف -كما يقول العلامة الخرشي المالكي في "شرخ مختصر خليل" (2/ 266، ط. دار الفكر)-: [تصفية مرآة العقل، والتشبُّه بالملائكة الكرام في استغراق الأوقات في العبادات، وحبس النفس عن الشَّهوات، وكف اللسان عما لا ينبغي] اهـ.

- مدة الاعتكاف

مدَّة الاعتكاف يحددُها المعتكف؛ فإن نوى مدةً معينةً استحب له إتمامها؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 490): [قال المتولي وغيره: ولو نوى اعتكاف مدَّة معلومة استحب له الوفاء بها بكمالها، فإن خرج قبل إكمالها جاز؛ لأنَّ التطوُّع لا يلزم بالشروع. وإن أطلق النيَّة ولم يقدر شيئًا دام اعتكافه مادام في المسجد] اهـ.

- حكم الاعتكاف للرجال

الاعتكاف للرجال لا يكون إلا في المسجد؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187].
ووجه الدلالة في الآية -كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 272، ط. دار المعرفة)-: [أنه لو صحَّ في غير المسجد لم يختصَّ تحريم المباشرة به؛ لأن الجماعَ منافٍ للاعتكاف بالإجماع، فعُلِمَ مِن ذِكر المساجدِ أن المرادَ أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها] اهـ.
فاللُّبث في المسجد هو ركنُ الاعتكاف للرجال، وقد اتفقت على ذلك المذاهبُ الأربعة، ونُقِل على ذلك الإجماع؛ قال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الاستذكار" (10/ 273، ط. دار قتيبة): [وأجمعوا أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد" (1/ 313، ط. مصطفى الحلبي): [وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد، إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أنه يصحُّ في غير المسجد وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد، وإلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المرأة إنما تعتكفُ في مسجد بيتها.. ولكن هو قول شاذ، والجمهور على أن العكوف إنما أضيف إلى المساجد لأنها من شرطه] اهـ.

وقال الإمام أبو الحسن بن القطان المالكي في "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 242، ط. الفاروق الحديثية): [وأجمعوا أنَّ الاعتكافَ لا يكونُ إلا في المسجد] اهـ.
وقال الإمام القرطبيُّ المالكي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 333، ط. دار الكتب المصرية): [أجمع العلماء على أن الاعتكافَ لا يكون إلا في المسجد] اهـ.
وقال الإمام سراج الدين بن الملقن الشافعي في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (13/ 615، ط. دار الكتب المصرية): [وقام الإجماع على أن الاعتكافَ لا يكون إلا في المسجد؛ لهذِه الآية، ولا عبرةَ بمخالفةِ ابن لبابة المالكي فيه؛ لشذوذه] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 189): [ولا يصحُّ الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلًا، لا نعلمُ في هذا بين أهل العلم خلافًا، والأصلُ في ذلك قول الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾؛ فخصها بذلك، ولو صحَّ الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها؛ فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقًا] اهـ.

- حكم الاعتكاف للنساء

وأما النساء: فجمهور الفقهاء على أنهن كالرجال، وأن اعتكافهن لا يصحُّ إلا في المسجد؛ استدلالًا بذكر المساجد في الآية، وخالف في ذلك الحنفية؛ فأجازوا للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، ونسب ذلك للإمام الشافعي في القديم، وأنكر المحققون من أصحابه نسبته إليه.
قال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (2/ 265، ط. دار الكتب العلمية): [ولو اعتكفت المرأة في مسجد بيتها -وهو المُعتَزَلُ المهيأُ للصلاة- لم يصح على الجديد، ويصح على القديم.. قلت: قد أنكر القاضي أبو الطيب وجماعة هذا القديم، وقالوا: لا يجوز في مسجد بيتها قولًا واحدًا، وغلَّطوا من قال: قولان] اهـ.
وقال الإمام علاء الدين بن العطار الشافعي في "العمدة" (2/ 923، ط. دار البشائر): [ومذهب أبي حنيفة قول قديم للشافعي، ضعيف عند أصحابه] اهـ.
واستدلَّ الجمهور بحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يعتكفَ، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف إذا أخبيةٌ؛ خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، رضي الله عنهن، فقال:«أَلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ!» ثم انصرف، فلم يعتكف حتى اعتكف عشرًا من شوال. متفق عليه.

قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (8/ 68، ط. إحياء التراث العربي): [وفي هذه الأحاديث: أن الاعتكاف لا يصحُّ إلا في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه وأصحابه إنما اعتكفوا في المسجد مع المشقة في ملازمته، فلو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة، لاسيما النساء؛ لأن حاجتهن إليه في البيوت أكثر] اهـ.
وقال الإمام ابن العطار الشافعي في "العمدة في شرح العدة" (2/ 923): [اعتكف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجُه في المسجد مع المشقَّة في ملازمته، ومخالفة العادة في الاختلاط بالنَّاس، لا سيما النِّساء، فلو جاز الاعتكاف في البيوت، لما خولف المقتضى لعدم الاختلاط بالنَّاس في المسجد وتحمُّل المشقة في الخروج لعوارض الخلقة] اهـ بتصرف يسير.
وقال الحافظُ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (4/ 277، ط. دار المعرفة): [وفيه: أن المسجدَ شرطٌ للاعتكاف؛ لأن النساء شُرع لهن الاحتجاب في البيوت، فلو لم يكن المسجد شرطًا ما وقع ما ذكر من الإذن والمنع، ولَاكْتُفِي لهن بالاعتكاف في مساجدِ بيوتهن] اهـ. ونحوه للحافظ العيني في "عمدة القاري" (11/ 148، ط. دار إحياء التراث العربي).

وقد ورد بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واعتضد بآثار الصحابة وإجماعهم:
فروى سعيد بن منصور في "السنن" واللفظ له -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق"-، والإسماعيلي في "معجمه"، والبيهقي في "السنن الكبرى": عن سفيان بن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: قال حذيفة لابن مسعود رضي الله عنهما: لقد علمتَ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ»، أو قال: «مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ».
قال الشيخ ابن تيمية في "شرح العمدة" (3/ 593، ط. مجمع الفقه): [رواه سعيد بإسناد جيد] اهـ، وقال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (15/ 81، ط. مؤسسة الرسالة): [صحيحٌ غريبٌ عالٍ] اهـ.
وفي رواية لحذيفة رضي الله عنه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ مُؤَذِّنٌ وَإِمَامٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصْلُحُ» رواه سعيد بن منصور والدارقطني في "سننهما".
وفي رواية الإمام أبي بكر الشافعي في "الغيلانيات": أن الذي روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ».

قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "شرح العمدة" (3/ 603): [مع ما تقدم من غيره من الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنهم لم يفرقوا بين الرجال والنساء، وعائشة رضي الله عنها منهم، ومعلومٌ أنها لا تهمل شأن اعتكافها، ولم يُعرف عن صحابي خلافه، لا سيما والصحابي إذا قال: بدعة، علم أنه غير مشروع، كما أنه إذا قال: سنة، علم أنه مشروع] اهـ.
وروى عمرو بن دينار عن جابر أنه سئل عن امرأةٍ جعلت عليها أن تعتكف في مسجد بيتها؟ قال: "لا يصلح، لِتعتكفْ فِي مسجد؛ كما قال الله: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾" أخرجه أبو بكر الأثرم؛ كما ذكر الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (3/ 170، ط. مكتبة الغرباء)، وقال: [وجابرٌ هذا يُحتَمَل أنه جابر بن عبد الله الصحابي رضي الله عنهما، ويحتمل أنه جابر بن زيد أبو الشعثاء التابعي] .

قال الإمام الزهري: [مضت السُّنّةُ أنه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد جماعة تجمع فيه الجمعة" رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأبو بكر النجَّاد -وهذا لفظه- فيما نقله القاضي أبو يعلى في "التعليقة" -(1/ 8، ط. دار النوادر)- ثم قال: وهو قول جماعة من التابعين: الحسن، وجابر بن زيد، وعطاء، ومكحول، والزهري، وعكرمة، وإبراهيم] اهـ.
وقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" أيضًا عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي، والحكم، وحماد، وعروة، وغيرهم.
ورواه قبلَه عبد الرزاق في "المصنف" عن: سعيد بن المسيب، وعلي بن أبي طالب، والحسن البصري، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة، وإبراهيم، وسعيد بن جبير، وأبي الأحوص، والزهري، وعطاء، وغيرهم.
وقال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلَّى" (3/ 431، ط. دار الفكر): [وقد صحَّ أن أزواجَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتكفن في المسجد، ولا مخالفَ لهن من الصحابة] اهـ.

- حكم اعتكاف المرأة في بيتها
القول باشتراط المسجدية في صحَّة الاعتكاف بالنسبة للرجال أمرٌ متفقٌ عليه بين العلماء، وكذلك بالنسبة للنساء عند جماهير الفقهاء، وهو إجماع الصحابة، وهذا هو المذهب المعتمد والقول المفتى به، ويمكن حمل قول من أجاز للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها على قصد حصول الثواب لها، فيما تطلعت إليه نفسها من الطاعة وتشوَّقت له من نيل أجر الاعتكاف؛ فإن مداومتها على صلاتِها وقيامِها في بيتها خيرٌ لها وأثْوَبُ من اعتكافها في المسجد، فإذا لزمت بيتها على ذلك نالت أجر الاعتكاف وزيادة؛ لأنه لم يمنعها من الاعتكاف إلا طلب الخيرية في رضا الله تعالى بمكثها في بيتها.

الاعتكاف مستحبٌّ شرعًا، ولا يكون واجبًا إلا بالنذر، ويجوز أن يكون في أي مسجدٍ، وأقله: أقلُّ ما يطلق عليه اسم الاعتكاف لغةً، حتى إن المصلِّي إذا دخل المسجد له أن ينوي الاعتكاف مهما كان مكثه فيه ويحصل له ثوابه. وليس لأكثر أيام الاعتكاف حدٌّ؛ فيجوز أن يعتكف المرء شهرًا أو أكثر بشرط أن لا يضيع من يعول أو واجباته الدينية أو الدنيوية.

- اعتكاف العشر الأواخر من رمضان وأقل مدة الاعتكاف وأكثره

السنة اعتكاف العشر الأواخر من رمضان؛ تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك.

وأقلُّ مدَّةٍ للاعتكاف هي أقل ما يُطْلَقُ عليه اسم الاعتكاف عُرْفًا، وهذا ما ذهب إليه الجمهور؛ فإن الاعتكاف في اللغة يقع على القليل والكثير، ولم يحده الشرع بشيء يخصه فبقي على أصله؛ ولذلك استحب جماعة من الفقهاء للمصلِّي إذا دخل المسجد أن ينوي الاعتكاف مهما كان مكثه فيه؛ ليحصل له ثوابه.

وأَمَّا أكثر مُدَّة للاعتكاف فلا حَدَّ لها؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 514): [وكُلَّما كثُر كان أفضل، ولا حَدَّ لأَكْثَرِه، بل يصحُّ اعتكافُ عُمْرِ الإنسان جميعه، ويصحُّ نذرُ اعتكاف العمر] اهـ.

وقال العلامة ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (5/ 430، ط. دار العاصمة): [وأَجْمَع العلماءُ على أن لا حدَّ لأكثره] اهـ.
[وبداية الاعتكاف ونهايته يحددها الْمُعْتَكِف بنفسه، فإن نوى اعتكاف مدة معلومة استُحب له الوفاء بها بكمالها، فإن خرج قبل إكمالها جاز؛ لأن التطوع لا يلزم بالشروع، وإن أطلق النِّيَّة ولم يُقَدِّر شيئًا دام اعتكافُه ما دام في المسجد] اهـ. "المجموع" (6/ 514).


- مكان الاعتكاف وأفضله

مكان الاعتكاف هو المسجد؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187]، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتكف إلا في المسجد.

واتفقوا على أن المساجد الثلاثة أفضل من غيرها، والمسجد الحرام أفضل، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى؛ قال العلامة ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 50): [أجمعوا على أن الاعتكافَ جائزٌ في المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومسجد إيليا] اهـ.

ثم اختلفوا في المسجد الذي يصح الاعتكاف فيه؛ فذهب المالكية والشافعية إلى جواز الاعتكاف في أيِّ مسجد من المساجد؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187]؛ فقد عَمَّ الله المساجد كلها ولم يخص منها شيئًا، فلا دليل على تخصيص بعضها بالجواز.

قال العلامة العدوي المالكي في "حاشيته" على "شرح كفاية الطالب الرباني" (1/ 465، ط. دار الفكر): [ولا يكون الاعتكاف إلا في المساجد فلا يصح في البيوت والحوانيت ونحوها؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187] فيصح الاعتكاف في أي مسجدٍ كان، ولو كان غيرَ المساجد الثلاثة في أي بلدٍ كان] اهـ.

وقال الإمام الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (2/ 189، ط. دار الكتب العلمية): [(وإنما يصح الاعتكاف في المسجد)؛ للاتِّباع رواه الشيخان؛ وللإجماع؛ ولقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187]، (و) المسجد (الجامع) وهو ما تقام فيه الجمعة (أولى) بالاعتكاف فيه من غيره؛ للخروج من خلاف من أوجبه؛ ولكثرة الجماعة فيه؛ وللاستغناء عن الخروج للجمعة، ويجب الجامع للاعتكاف فيه إن نذر مدة متتابعة فيها يوم الجمعة وكان ممن تلزمه الجمعة ولم يشترط الخروج لها؛ لأن الخروج لها يقطع التتابع لتقصيره بعد اعتكافه في الجامع، ويستثنى من كون الجامع أولى ما إذا كان قد عيَّن غير الجامع فالمُعَّين أولى إذا لم يحتج إلى الخروج إلى الجمعة] اهـ.

وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد إلى اشتراط كون المسجد جامعًا عامًّا تُقَام فيه الصلوات الخمس وصلاة الجماعة.

قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 440، ط. دار الفكر) في تعريفه للاعتكاف: [(هو) لغة: اللبث وشرعًا: (لبث) بفتح اللام وتضم المكث (ذكر) ولو مميزًا في (مسجد جماعة) هو ما له إمام ومؤذن أديت فيه الخمس أَوْ لا، وعن الإمام اشتراط أداء الخمس فيه وصححه بعضهم، وقال: لا يصح في كل مسجد وصححه السروجي، وأما الجامع فيصح فيه مطلقًا اتفاقًا] اهـ.
[والمسجد الجامع وإن لم يكن مشروطًا لصحة الاعتكاف، فالاعتكاف فيه أفضل؛ للخروج من خلاف من أوجب الاعتكاف فيه، ولكثرة الجماعة فيه، وللاستغناء عن الخروج للجمعة] اهـ. "مغني المحتاج" (2/ 190).

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 352، ط. دار الكتب العلمية): [ولا يصح الاعتكاف من رجل تلزمه الصلاةُ جماعةً إلا في مسجد تقام فيه الجماعة فلا يصح بغير مسجد بلا خلاف، ولا يصح ممن تلزمه الجماعة إلا بمسجد تقام فيه حذرًا من ترك الجماعة، وإن لم يكن المعتكف رجلًا تلزمه الصلاة جماعة بأن كان امرأةً أو عبدًا أو صبيًّا أو معذورًا أو لم يأتِ عليه زمن اعتكافه فعل صلاة؛ كما لو اعتكف من طلوع الشمس إلى الزوال صح اعتكافًا في كل مسجد، ولا يصح الاعتكاف ممن تلزمه الجماعة في مسجد تقام فيه الجمعة دون الجماعة إذا كان يأتي عليه وقت صلاة لما مر وظَهْرُه أي: المسجد منه، ورحبته المحوطة وعليها باب نصًّا منه] اهـ.