رئيس قسم التفسير بجامعة الأزهر: مقام الإحسان أولوية للتكافل وخدمة المجتمع

د. محمد سبتان
د. محمد سبتان

في أوقات الغلاء والبلاء والأزمات تتجلى روعة التمسك بالأخلاق والقيم الإسلامية التى تحضّ على التعاون والتعاضد بين أفراد المجتمع، بحيث يُصبح كالجسد الواحد الذى اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى؛ حول هذا المفهوم الأسمى الذى وضعته الشريعة الإسلامية للتعاون والتسامح والإحسان بين أفراد المجتمع، يؤكد د. محمد حسن سبتان، أستاذ ورئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين بالقاهرة، جامعة الأزهر، أن القرآن الكريم يضعنا أمام مشهدين عظيمين ليوسف، عليه السلام، الأول: مشهد تذرف له مدامع العيون، ويندى له الجبين، حين رماه إخوته فى ظلام الجُبِّ، لم يراعوا رحِمًا ولا أخًا ولا أبًا، بل ثانية الخطايا: أن جرَّدُوه من قميصه (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) حتى يحبُكُوا مكرهم، وثالثة الأثافى: لم يراعوا إنسانيته، فبلغ الأسى فى قلوبهم مبلغه حين وقفوا يساومون على بيعه بثمن بخس - مدعين زورًا أنه عبدٌ هارب - فقبضوا دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.

عزيز مصر
ويضيف د. سبتان أن المشهد الثانى: تطرب له القلوب فرحًا، ويوسف عزيز مصر جالس على العرش، وإخوته حاضرون أمامه - وهو يتذكر ماضى هؤلاء - حين لم يقصروا فى كل شر يوقعونه بهذا العزيز، والآن جاؤوا واقفين أمامه يتوسلون: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ). وقبل أن يعطيهم الصدقة: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ). ونترك لخاطر القارئ أن يتأمل ذهولهم، وقد ألحقوا به كل أذى وشر، وهم الآن يستعطفونه من الفقر، ماذا فعلوا عند هَوْلِ المفاجأة؟ وكيف وصل إلى هذه المكانة؟ لكن الذى نريد لفت النظر إليه: أنه شتان ما بين مشهد نزول الكرب، وما بين مشهد الرفعة، وزوال الكرب، فما هو المفتاح الذى انتقل به يوسف إلى أوج العز والكرامة؟ إنه مفتاح الإحسان الذى تكرر بين المشهدين السابقين خمس مرات: آية 22 (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ). آية 36 (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) بتعبير الرؤيا (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). آية 56 (وَكَذَلِكَ) كإنعام الله عليه بالخلاص من السجن أنعم عليه بالتمكين فى الأرض (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ) أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) بعد الضيق والحبس وفى القصة أن الملك توجه وولاه عزيزًا لمصر، فأقام العدل بمصر، ودانت له الرقاب (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). بسعة الملك، وبسط فى العيش. آية 78 (قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا) يحبه أكثر منا ويحزنه فراقه (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ) بدلا منه (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فى أفعالك. آية 90 (قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى قَدْ مَنَّ) أنعم (اللهُ عَلَيْنَا) بالاجتماع (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ) يخف من الله (وَيصْبِرْ) على ما يناله من الأذى (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

مقام الإحسان
ويضيف د. سبتان أن مقام الإحسان: أن يعطى من حرمه، وأن يصل من قطعه وأن يعفو عمن ظلمه. ومقام الإحسان: وهو فى السجن أن يزيل أحزانهم، ذَكَر القرطبى: لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قومًا قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم، فجعل يقول لهم: اصبروا وأبشروا تؤجروا، فقالوا له: يا فتى! ما أحسن حديثك! لقد بورك لنا فى جوارك. وعن ابن عباس: كان يوسف فى السجن يُعَزِّى الحَزِين، ويعود المريض، ويداوى فيه الجريح، ويصلى الليل. وقد علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدعية إذا نزل بنا الكرب، واشتدت الأمور، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، أن نقول كما ورد فى الصحيحين عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.

وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر قال: يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأسماء بنت عميس: ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب: الله الله ربى لا أشرك به شيئًا، وقال - صلى الله عليه وسلم -: من أصابه همّ أو غمّ أو سقم أو شدة فقال: الله ربى لا شريك له كشف ذلك عنه. وعن أبى بكرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوة المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، وأصلح لى شأنى كله لا إله إلا أنت. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوة ذى النون إذ دعا وهو فى بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم فى شىء قط إلا استجاب الله له.