ملحمة درامية تكشف صناعة الوهم والتلاعب بالعقول تحت عباءة الدين

د. آمال عثمان تكتب: «الحشاشين» أخطر جماعة سرية في التاريخ الإسلامي

كريم عبد العزيز
كريم عبد العزيز

أوغلت الدراما فى صفحات التاريخ، وأطلت على فترة زمنية خصبة من حياة الدولة الفارسية، لتكشف حالة التخبط الفكرى والسياسى الذى ساد العالم الإسلامي، خلال فترة مليئة بالصراعات والاضطرابات والمؤامرات، وما نشأ فيها من انقسامات مذهبية وطائفية متناحرة، انبثقت عنها جماعات وخوارج ومعتزلة وفرق ملتحفة بعباءة الدين، ومكتسية برداء الورع والزهد والفضيلة، وانتقى الكاتب المبدع «عبد الرحيم كمال» أشد الحكايات تعقيداً وغموضاً فى التاريخ الإسلامي، وأكثرها دموية وفتكاً وقساوة، فرقة «الحشاشين» الباطنية الإسماعيلية، ومؤسسها حسن الصباح، أدهى من سار على قدمين فى هذه الدنيا، تلك الفرقة التى بثّت الفزع والرعب فى مشارق العالم ومغاربه، وخرج من غلالتها وبجادها أغلب الجماعات التكفيرية وأعنفها تطرفاً ودموية.

أبدع السيناريست «عبد الرحيم كمال» ملحمة درامية تمتطى صهوة الخيال، وتتأرجح بين شفا الأسطورة وحافة الواقع، ونسج سيناريو تتشابك فيه الحقيقة بكنف الخرافة، ويتصارع فيه الحق مع الباطل، بأسلوب سردى جذاب ومشوق، ولغة سلسة تجمع بين الرقى والبساطة، ليخاطب بها الوعى الجماهيري، ويوقظ غفاة البشر والسائرين نياماً، وإيماناً بأن من يدرك الماضى يقود الحاضر ويشكل المستقبل.

وفّرت الشركة المتحدة للعمل كل عوامل النجاح بالمقاييس العالمية، ورصدت له ميزانية ضخمة، تليق بخطورة قضية تلقى بظلالها على العصر، وقصة حقيقية نالت مساحة جدلية واسعة بين المؤرخين والمستشرقين، وتباينت حولها آراء الكتاب والمؤلفين، بطلها شخصية تراجيدية بامتياز، رجل قادر على أن يُلبس الحق بالباطل، والإيمان بالكفر، وإنسان اختلفت حوله سطور الأقلام، وتضاربت فى وصفه المراجع والأقاويل، واجتهادات المؤلفين من بقايا كتبهم ومكاتباتهم التى أُحرقت على أيدى المغول، وصوّرته تارة داهية ماكرا شديد الذكاء، وسفاحاً دموياً مستبداً يطمح للزعامة، وصاحب عقل راجح وفكر سديد وعقيدة راسخة تارة أخرى، وفى حين يصفه البعض بأنه شخصية قوية ومؤثرة، وعالم فى الهندسة والحساب والنجوم والسحر والفراسة، يرى آخرون أنه ناسك صاحب قدرات خارقة أقرب إلى شخصية «راسبوتين» الذى كان فلاحاً وصار مقدساً وسط الجهلاء الفلاحين!

لذا استحوذ المسلسل على اهتمام الجمهور على امتداد الوطن العربي، وحقق المشاهدة الأعلى من بين الأعمال الفنية المتعددة التى أضاءت شاشة رمضان هذا العام، وشكلت وجبة درامية متنوعة ومتميزة، ترضى مختلف الأذواق والطبقات والأجيال، دون إسفاف أو ابتذال أو استخفاف بعقول المشاهدين، وأستطيع القول -بكل أريحية- أن المخرج «بيتر ميمي» حقق نقلة نوعية فى مسيرة الدراما التاريخية، التى صارت توجهاً عالمياً له جمهوره الواسع، وأحالها من مقاعد المتفرجين إلى حلبة المنافسة، وقدم سطوراً من الماضى بلغة العصر، وعملاً درامياً تاريخياً يفيض إبهاراً وتشويقاً وجاذبية، مع فريقه الفنى والتقني، مدير التصوير «حسين عسر» البارع فى إضاءة الصورة، واختيار الكادرات والزوايا واللقطات والألوان، ومهندس الديكور «أحمد فايز» من نجح فى خلق عالم ينقل المشاهد عبر الزمان والمكان، والمونتير المبدع «أحمد حمدي» الذى كثف الإحساس بالمعنى والأفكار وضبط الإيقاع والحركة، والمؤلف الموسيقى «أمين أبو حافة»، واختيار أغنية التتر من كلمات رباعيات عمر الخيام، بصوت المنشد «وائل الفشني». 
كما برع المخرج فى اختيار شخصيات المسلسل، بما فى ذلك الأدوار المساعدة والثانوية، واهتم بكل تفاصيلها، ونجح النجم «كريم عبد العزيز» فى الولوج إلى أعماق شخصية حسن الصباح، مؤسس طائفة دولة الحشاشين الإسماعيلية النزارية، أخطر جماعة دينية سرية تأسست فى العالم الإسلامي، والذى منح نفسه لقب «سر الكون» و «حامل مفتاح الجنة»، وأوهم أتباعه بأن أحلامه إلهام إلهى ورؤاه انحياز رباني، أقام فى قلعة «ألموت»، الحصن الذى يقع فوق صخرة على ارتفاع 6 آلاف متر، استعصت على الغزاة لأكثر من 160 عاماً قبل أن يدمرها المغول، ولم يخرج منها طوال 35 عاماً، وكان ينتقى الصبية ويدربهم على عمليات الاغتيال، بطرق دموية وأساليب شيطانية، وإيهامهم بالفردوس للسيطرة عليهم فكرياً وعقائدياً، ودفعهم للتضحية بأنفسهم طمعاً فى دخول الجنة، عبر أسرع طريق يختصر عقوداً من العبادة! 

وجسّد «كريم» ببراعة انفعالات ومواقف الشخصية، دون مغالاة أو مبالغة، ودون إثارة التعاطف أو التماهى معها، أو التعلق بمواقفها وأفكارها، وأمعن الفنان المتألق «فتحى عبد الوهاب» فى تجسيد شخصية الوزير «نظام الملك»، وأجاد الفنان «نيقولا معوض» فى تصوير شخصية الشاعر عمر الخيام، أما اختيار الفنان «أحمد عيد» لأداء شخصية «زيد بن سيحون» فيُعد مفاجأة المسلسل، وصفحة جديدة يكتب بها تاريخاً فنياً جديداً لنفسه، بعد التحول الكبير فى اختيار نوعية أدواره منذ العام الماضي. 

منذ سنوات لم استمتع بعمل فنى تاريخي، مثلما آسرت واستغرقت فى مسلسل «الحشاشين»، بداية من التتر الساحر الخلاب، كلمات رباعيات عمر الخيام، بصوت المنشد «وائل الفشني»، والموسيقى الملهمة للموسيقار «أمين أبو حافة»، والولوج من بوابة التاريخ من خلال إشارات خاطفة، منذ بداية رسالة الإسلام لإصلاح أحوال الناس وأرواح العباد، مروراً بالخلفاء الراشدين الأربعة، وصولاً إلى الخلافة الأموية، ثم العباسية التى حكمت نصف الكرة الأرضية، ثم تدهورت بغداد وساءت أحوالها عند القرن الحادى عشر، وظهور مجموعة من الرعاة الأتراك أسسوا الدولة السلجوقية، وأعدوا لها أكبر جيوش الأرض، وفى المقابل كانت الدولة الفاطمية فى مصر والمغرب فى أضعف حالاتها.

تحية لكل من شارك فى هذا العمل الفنى الذى أمتعنا وأحترم عقولنا، ووضع أعمالنا التاريخية على أبواب المنافسة العالمية.