«لن أرحل» قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس

 قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة
قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة

يطل عليها ابن اختها كريم، كل صباح، بوجهه الملائكي المشرق، ويندفع إليها ضاحكا، مستبشرا، فتضمه إلى صدرها، ولا تتركه يغادرها، إلا وقد أهدته قطعة الشوكولاتة ليسارع إلى قضمها بنهم، وقد ارتسمت على شفتيه الرقيقتين ابتسامة، تتألق فرحا وسرورا. فما تلبث أن تطبع على جبينه المضيء قبلة تفيض مودة، وحنانا...

بعد مضي ثلاثة عقود على بداية عهدها بالحياة، ألفت نفسها ما تزال عزباء، في حالة بطالة،  تحلم بالظفر بشغل يحقق لها كرامتها، وزوج تسكن إليه ليقاسمها مشوار الحياة في كنف السكينة والاستقرار...

تمر الأيام رتيبة، بينما  تظل هواجس القلق المحيطة بها مراوحة مكانها، تلك الهواجس التي تؤرقها، ما تلبث عدواها أن تصيب حياة أبويها اللذين أمسيا منزعجين ، رغم محاولتهما كتمان ما ألم بهما من توتر وارتباك...

فجأة، خامرتها فكرة ترك بلدتها،  والرحيل إلى العاصمة، هربا مما باتت تعانيه من قلق متزايد، وهي ترى صديقاتها يتزوجن تباعا ، الواحدة تلو الأخرى، بينما تجلس هي منفردة، دامعة العينين، تشكو لنفسها سوء الحظ، ومرارة الأيام...

 باتت تبغي الرحيل،  بحثاً عن حياة جديدة، ووجوه، وأماكن لم تألفها الذاكرة...

إنها تريد أن تنسى ايقاع حياتها الماضية،

وتستأنف عمرا آخر....

غادرت فجراً نحو محطة القطار، وحين وصلت، هناك،  تذكرت أنها لم تجلب معها بطاقة تعريفها، و شهادتها العلمية، فقفلت راجعة إلى المنزل...

في إحدى زوايا الشارع، لفت نظرها ظهور امرأة خمسينية، تومىء بيدها، مشيرة إليها بالاقتراب. فوقفت في مكانها، صامتة، مترددة، غير أن السيدة، التي بدا وجهها غير مألوف في البلدة، دنت منها مصرة على مخاطبتها :

_ أراك قلقة، ترزحين تحت حمل ثقيل من هواجس، باتت تؤرقك. أنصتي إلي، ولتتأكدي أني لا أضمر لك إلا الخير !

_ ها أنا أصغي إليك. تفضلي !

_  لماذا تفكرين في الرحيل ؟ اعلمي أنه في غيابك ستذبل زهور حديقتك الجميلة، الغناء،

 وسيفتقدك، في قفصه، عصفورك الشادي، وبدونك، لن ترفرف في فضاء البيت أجنحة السعادة والبهجة...  عودي فورا، ستجدين كل الذين أحبوك في الانتظار، مهللين، فرحين لرؤيتك ! 

انتصبت متسمّرة في مكانها، ذاهلة، لا تدري ما تقول... أصابها اضطراب، و شعرت بدقات قلبها تتسارع، بينما دوّت صافرة القطار، ممزّقة سكون الفجر ، ومعلنة توقّفه بمحطة البلدة التي بدأت تودع سكون ليلها الطويل..استعادت بعضا من طمأنينتها، و تحرّكت من مكانها، وهي تتمتم :  «أنا هنا باقية، لن أغادر.»

حين التفتت، فاجأها غياب تلك السيدة التي ما لبثت أن اختفت عن الأنظار، يلفّها ستار الفجر الهادئ...