أيمن موسى يكتب: لعبة «القط والفأر» بين روسيا والغـرب

أيمن موسى
أيمن موسى

■ بقلم: أيمن موسى

قد يعتقد البعض أن الخلافات والتناقضات القائمة فى الوقت الراهن بين روسيا والغرب هى وليدة مواقف لحظية ترتبط بالوضع فى أوكرانيا ومن قبلها جورجيا، لكن من ينظر لتطورات احتدام العلاقات بين روسيا والغرب، رُبما يصل لقناعة أعمق، وهى أن ما يجرى فى الوقت الراهن ليس سوى حلقة جديدة من المسلسل الطويل للصراع بين الشرق والغرب، ومحاولات الأخير زحزحة روسيا من كافة دوائر النفوذ والاستئثار بالهيمنة على العالم دون منازع،  وينطبق ذلك على وجه الخصوص بالولايات المتحدة، التى رُبما لم تر فى روسيا شريكا أو صديقا محتملا يمكن التعاون معه بشكل صادق ونزيه.

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، كانت روسيا الجديدة تأمل فى بداية عهد جديد من تاريخ علاقاتها مع أوروبا والغرب والعالم أجمع حيث كانت تعتقد أنها ستكون محاطة بحزام قوى من حسن الجوار مع الدول المجاورة، وأظهرت فى الكثير من المواقف حسن النية فى التعامل مع الغرب، وتقديم تنازلات كثيرة لإظهار تمسكها بالتعاون معه، وأنها لم تعد تمثل أى مصدر تهديد له، ومع ذلك وفى كل مرة كانت روسيا تقدم التنازلات وتثبت حسن النية كان الغرب وعلى رأسه بطبيعة الحال الولايات المتحدة يتمادى فى الضغط وطرح المزيد من المطالب والتنازلات، والأكثر من ذلك تبنى سياسات وقحة تقوم على أساس التراجع عن الالتزام بالاتفاقيات والتعاهدات مع روسيا بينما يطالبها فى ذات الوقت بالالتزام بها، وفى الكثير من الأحيان يبدو كمن يحاسبها على عدم الالتزام القاطع بها.

◄ تطويق روسيا
الغرب لدى تفكك الاتحاد السوفيتى أعلن مع روسيا، انتهاء الحرب الباردة، وهو أمر واقع باعتبار أنه لم تعد هناك كتلة شرقية وأن روسيا لم تعد فى وضع يسمح لها بمواصلة هذه الحرب غير المسلحة، ورغم ذلك تعهد الغرب لروسيا بأنه لن يعمل على المزيد من توسعة حلف الناتو، ومع ذلك واصل حلف الناتو التوسع على حساب دول شرق ووسط أوروبا، وكان يقترب بماكينته العسكرية والمؤسسية من الحدود الروسية فيما يشبه المخطط الذى لا رجعة فيه لتطويق روسيا من كافة الجوانب، وفى كل مرة كانت تبدى روسيا اعتراضها الشديد على هذه المسيرة وتذكر الغرب بتعهداته، وبطبيعة الحال كان ذلك يقابل بالتجاهل وفى الكثير من الأحيان السخرية والاستهزاء، ولكن كانت الأمور تنتهى برضوخ روسيا ربما بسبب أنها لم تكن تمتلك أية أدوات لوقف هذه السياسات أو لأنها كانت ترغب فى إثبات أنها تحولت وأنها ترغب فى العيش فى سلام وأن توجهاتها فى مجال التقارب والشراكة مع الغرب هى خيار استراتيجى لن يؤثر فيه أى شيء.

◄ مُعاداة روسيا
رغم ما ظهر على أنه رضوخ من جانب روسيا، إلا أن الاستفزازات الغربية ومحاولات، إن جاز التعبير، الإذلال لم تتوقف حيث شرعت الولايات المتحدة فى بسط الهيمنة الكاملة على النظام العالمى وشن الحروب هنا وهناك سواء بتجاهل موقف الأمم المتحدة والشرعية الدولية أو تأويل قراراتها على النحو الذى تراه وبالتأكيد على النحو المخالف للموقف الروسى والدولى.

انتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب كان يتصل فى الأساس بمجموعة من اتفاقيات الحد من التسلح ونزع أنواع معينة منه إلا أن الولايات المتحدة والغرب، واصلا تطوير القدرات العسكرية والانسحاب من المعاهدات التى تقوض أو تحد من هذه الاتجاهات، وعلى رأسها معاهدة الأسلحة الاستراتيجية الهجومية والمعروف بمعاهدات ستارت، ومعاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والأقصر مدى، ومعاهدة الدفاع ضد الصواريخ، ومعاهدة السماوات المفتوحة، ومعاهدة القوات المسلحة التقليدية فى أوروبا، وغيرها من الاتفاقيات والتفاهمات التى كان الغرض منها هو إعطاء البشرية الأمل فى، إن لم يكن، التخلص فعلى الأقل الحد من مصادر تهديده بقاءها.

وفى غضون ذلك، كانت هناك مراحل ربما تعطى لروسيا أملا هشا فى انفتاح الغرب عليها، ولكن سرعان ما يتبدد هذا الأمل، فبعد تفكك الاتحاد السوفيتى وتأكد الغرب من خنوع الرئيس الروسى الأول بوريس يلتسين للسياسات الغربية دأب الغرب على تشجيع الاتجاهات الانفصالية والمعارضة المسلحة فى روسيا التى كان من أبرزها الوضع فى الشيشان الذى تسبب فى مواجهة روسيا لأزمة خطيرة استمرت لأكثر من عقد، حيث كان الغرب باسم حقوق الإنسان يعمل على تقويض قدرات روسيا فى مجال مكافحة الإرهاب ويواصل دعمه للقوى الانفصالية إلى أن تجرعت الولايات المتحدة مرارة هذه الآفة وحاولت استغلال أحداث الحادى عشر من سبتمبر لبسط هيمنتها على العالم دون رقيب أو وبطبيعة الحال ولأسباب أخلاقية لم يكن بوسع روسيا الاعتراض على تحركات الولايات المتحدة التى كافأتها على ذلك بقبول عضويتها «النسبية» فى مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، وهو ربما ما كان يصب فى رغبة روسيا فى تعزيز شراكتها مع الغرب واعتبار نفسها ضمن الأسرة الأوروبية أو الصفوة العالمية، ولكن سرعان ما اتضح أن هذه العضوية هى فقط لمجرد حضور بعض اجتماعات لقاءات القمة وليس جميعها دون الحق الكامل فى المشاركة فى سياساته.

وبينما تمعن الولايات المتحدة فى استفزاز روسيا وإلهائها بملفات جانبية سواء فى مجال حقوق الإنسان أو بالأحرى حقوق الشواذ كان الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يعمل بما لديه من دهاء سياسى على التقارب مع الدول الأوروبية، حيث استغل الوضع بالنسبة للمخططات الأمريكية تجاه العراق ورفض بعض الدول الأوروبية لها على غرار فرنسا وألمانيا وإيطاليا وفيما بعد بلجيكا للتأكيد لهذه الدول أن الأمن فى أوروبا هو قضية الأوروبيين، وأنه يمكنهم معا تحقيق الكثير ومن هنا ظهر لدى غالبية المحللين قناعة بأن روسيا تعمل على التقارب مع أوروبا بمعزل عن الولايات المتحدة، وكانت أول لبنة على هذا الطريق هى توافق المصالح فى مجالات الطاقة حيث نفذت روسيا مع الدول الأوروبية عددا جيدا من مشروعات الطاقة ووصلت نسبة اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسى لأكثر من 40%، علاوة على أن الدول الأوروبية لم تعد تقتصر استثماراتها فى روسيا على المواد الخام وتعدتها للكثير من قطاعات الإنتاج المختلفة التى حققت للجانبين الكثير من الفوائد.

◄ الحسابات الخاطئة بين الجانبين
لا شك فى أنه لو استسلم الغرب لمنطق العقل والفطنة لأدرك أنه باكتساب روسيا لصفه فهذا يعنى الكثير من ضمانات الأمن والتنمية للجانبين، ولكنه رغم كافة المؤشرات إلا أنه آثر الانسياق وراء الولايات المتحدة، وفى نفس الوقت أرادت روسيا أن تبعث برسائل قوية بعد أن أعيتها حيل رسائل الطمأنينة، لذلك أقدمت على حملتها على أوكرانيا مهما كانت صحة أو خطأ مبرراتها فى ذلك، ولكن كلا الجانبين وقع فى أخطاء حسابية تبدو فادحة.

في البداية، وقعت أوكرانيا فى أخطاء حسابية فادحة عندما كانت تلوح على مدار السنوات بأنها تستعد وتعزز من تعاونها العسكرى مع الغرب والناتو والولايات المتحدة للوثوب على روسيا واسترجاع ما سلب من أراضيها، وهو أمر يتنافى مع كافة العلوم العسكرية، حيث إن ذلك سيجعل روسيا من جانبها تبدى القلق وتتابع وعند رصد أى خطر ستعمل على توجيه ضربات وقائية للتخلص من قدرات العدو المحتمل، كما يبدو أن عدوى الانسياق الغربى الأعمى للغرب قد انتقلت إلى أوكرانيا التى قبل الحرب وأثناءها كانت تناقش وتطرح خططها العسكرية سواء العملياتية أو في مجال التسليح عبر وسائل الإعلام المختلفة وبطبيعة الحال كانت روسيا تتربص بها وتجهضها فى المهد.

أما روسيا من جانبها فربما أنها قدرت وبشكل جيد قدرات الخصم لذلك كانت تعتزم ألا يمتد أمد الحرب لأكثر من شهر ونصف أو شهرين ولكن مع إصرار الغرب على إمداد أوكرانيا بالسلاح امتدت الحرب حتى الآن دون أى ملامح لإنهائها.

◄ تنازلات مُتبادلة
رُبما كانت روسيا تعول على تحلى الطرف الآخر بنوع من المنطق ويوافق على التفاهم مقابل تنازلات متبادلة، حيث إن من يمعن النظر فى الخريطة الروسية سوف يدرك جيدا أن روسيا لا تحتاج إلى المزيد من الأراضى وإنما ربما ما تحتاج إليه هو بعض محاور استراتيجية كان يمكن التفاهم عليها بشكل أو بآخر ربما منذ تفكك الاتحاد السوفيتى السابق.

ورُبما كانت روسيا تعول على أن الغرب قد أصبح يعتمد عليها بشكل كبير فى العديد من المناحى وعلى الأخص الطاقة، وأنه سيتورع عن فرض العقوبات عليها فى هذا المجال وأنه سوف يلتزم بقواعد القوانين والأعراف الدولية، وهو ما لم يفعله الغرب الذى أعمته الرغبة فى الانتقام وإخضاع روسيا عن طريق مجموعات أو حزم من العقوبات التى بدت فيما بعد وكأنها رصاصات أطلقها الغرب على أقدامه.

ربما تكون روسيا قد خسرت من خلال تجميد الغرب لما يربو على نصف أرصدتها فى مجال الاحتياطى من النقد الأجنبى وهو ما يزيد على 300 مليار دولار ومبلغ مماثل هو أصول الدولة وشركاتها على جانب أصول الكثير من مواطنيها، ولكن فى المقابل يقدر الخبراء خسائر الغرب من العقوبات على روسيا بأكثر من 1.3 تريليون دولار إضافة إلى 800 مليار دولار متوقعة فى 2024 وذلك رغم أن دول الاتحاد الأوروبى أدرك خطأ سياساتها فى مجال العقوبات التى لم تؤد إلى انهيار الاقتصاد الروسى وإنما إلى ارتقائه وفقا لتقدير الرئيس الروسى فلاديمير بوتين وبعض مراكز التقدير ليصبح الاقتصاد رقم واحد فى أوروبا.

◄ استئناف التعاملات
هذا الإدراك من جانب الغرب لتداعيات العقوبات على روسيا على الاقتصادات الغربية دفعها مجددا للعمل على استعادة بعض ما خسرته عن طريق استئناف بعض التعاملات التجارية مع روسيا بشكل غير مباشر، حيث تفيد بيانات الهيئات الجمركية والتجارية فى روسيا إلى استعادة نشاط التبادل التجارى بين روسيا ودول الغرب بنسبة تزيد عن 32% ليصل حجم التبادل التجارى بين الجانبين إلى 230 مليار دولار فى 2023.

ويبدو أن الغرب وبالأحرى أنظمته السياسية الهشة التى تصر على الاستسلام الأعمى للهيمنة الأمريكية لم يتعلم الدرس بشكل جيد لذلك فهو يحاول حل مشاكله عن طريق إشعال النزاعات فى مختلف مناطق العالم وتبنى مواقف تثير اشمئزاز ليس فقط دول العالم الثالث وغيرها بل وشعوبه الأوروبية ذاتها التى ربما قاربت على التعبير بشكل صارخ عن استيائها وامتعاضها من سياسات المعايير المتعددة والتناقض السلوكى والأخلاقى الواضح، فلم يعد الغرب هو منارة حقوق الإنسان ومكافحة التمييز والانتصار للقيم الإنسانية، وكان أبرز دليل على ذلك هو موقفه المثير للامتعاض من قتل النساء والأطفال والمدنيين العزل فى غزة وهى المواقف التى ستؤول فى النهاية لقلب السحر على الساحر ومواجهة الغرب للكثير من مصادر التهديد التى كاد ينساها فى السنوات الأخيرة.

لو اعتمدنا على البيانات الرسمية الصادرة عن صندوق النقد الدولى وبعض الدول الغربية فسوف يتضح أن الغرب ضخ لمساعدة أوكرانيا أكثر من 322 مليار دولار ناهيك عن الإنفاق على اللاجئين وعلى مختلف جوانب الحرب إلى جانب خسائر الاقتصادات الغربية المختلفة وسوف نجد أن الحديث هنا يدور عن مبالغ ربما تتعدى التريليونين من الدولارات، وبالعودة قليلا إلى أعوام ما قبل 2014 وبداية الأزمات بين روسيا من جانب وأوكرانيا من جانب آخر سنجد أن أوكرانيا كانت تتنقل ما بين أحضان روسيا والغرب بحثا عن تمويل يخرجها من بعض الأزمات فى حدود من نصف مليار ثم مليار، وفى نهاية الأمر كان الحديث يدور عن مبلغ يتراوح ما بين ثلاثة مليارات وثلاثة مليارات ونصف وهو ما يعنى أنه لو كان الغرب فعلا يريد الخير لأوكرانيا لساعدها بشكل حقيقى لتخطى أزماتها دون اللعب على الأوتار الداخلية ولما وقعت أوكرانيا وروسيا والغرب فى فخ حسابات وخسائر مهدرة ولا طائل من ورائها سوى المزيد والمزيد من المعاناة والتقسيمات والمواجهات التى لا شك فى أنها ستقود العالم لمصير لن ينساه لقرون مقبلة.