«قاهرة» لوحات للكاتب محمد عبد الحافظ ناصف

ارشيفية
ارشيفية

قـاهـــرة

هبطت وأحلامي محطة باب الحديد، أعرف أنني أذوب في زحام المدينة الرخامية، أحس أنني أفقد كل بقاياي وأتمخض بكارتي في منديل ورقي لا أبغي قذفه من شباك الثور الهائج لحين العودة - لا أعرف غير الأتوبيس 65 إلى الجبل وفراج مطاوع، الشاعر- "كان يهوى النخيل ولا تستطيع يداه الوصول لمهر النظر" كل النساء منهكات هنا، كأننا اتفقنا معاً، ورسمنا نفس الصورة في رأسينا.

صعدت فتاة تقاوم أجساد الناس، كانت منهكة قبل الصعود بزمن، رغم ملابسها الحديثة والتجميل إلا أنني رأيت بنات المحلة لأول مرة، كانت "وفيقة" تعدل طرحتها السوداء وتبتسم وتغوص في غيطان الذرة.

هبطت بعدما انتشلت نفسها من بين أذرع الرجال، تابعتها لكنها اختفت وسط الزحام صعدت أخرى، نفس الصورة الشاحبة والألوان المختلطة، تسمرت أمامها، شخص ما يعبث بها، قد حذرت زميلتي أن الأحمر ينشف على شفتيها فتبدوان كالأرض البور، لم تهتم بشيء.. هبطت بسرعة في أقرب محطة، تابعتها من الزجاج الموصد، صعدت ثالثة هي نفسها، هبطت، شعرت بنن عيني يرف، لم أشعر بالصعود والهبوط كانت دائماً أمامي وصوت مطاوع داخلي.. فزعت:

قالت لي والطيور تخلص أرجلها من إسار المدى:

سوف تقتلك الفئة الباغية.

... سوف وسوف...

توقف الأتوبيس، قذفني بالقرب من مقابر الغفير..

.. تذكرتها، كانت تغني لي "برجالاتك"، والنساء يرددن، والعيال تصرخ ودق الهون يرتفع معلنا للجميع أنني ابن سبعة...

 

 

 

 

سكر نبات

 

كانت أشعة الشمس تغمر الجرن، والعصافير خارج أعشاشها تلتقط الحب وتغني أغنيات جميلة، تجلس جدتي "أم السعد" في مكانها المعتاد تحت شجرة الصفصاف، تجمعنا حولها وتعطي لمن يحفظ السور سكر نبات، وتقول لمن يتألم من عصا الفقي: إن عصا الفقي من الجنة!! أتعجب.. كيف حصل عليها سيدنا الشيخ؟ ومن أعطاه إياها؟

تقول يجب على الصغار أن يفرحوا عندما يضربهم الشيخ، كانت العصا تنزل على أقدام الصغار فتتأوه "إيمان" بشدة وتظل تبكي من أجلهم.. كنت أحلم بعصاه التي من الجنة كثيراً كعود من القصب، أحاول أن أكل منه، فأنا أحب القصب بشدة، لكنه كان مرا مرا.. لا أدري لماذا؟ رغم أن قصب عم إبراهيم رائع المذاق.. يقول الولد "علي" إن عصا الفقي حتما من الجنة، وإنها كانت عودا من القصب، وهو يشعر بحلاوة السكر لحظة الضرب، لذلك لا يحفظ، فكيف له أن يترك حلاوة تلك العصا.. أتعجب.. فلم أجرب مرة عصا الفقي، كنت أحفظ جيدا وأبي يسمع لي والشيخ يعطيني حلوى، كان اليوم تسميع سورة "القارعة" كنت أذكر اسم الله وأقرأ في سري حتى وصلت للكتاب..

طرأت على ذهني فكرة: لماذا لا أجرب عصا الفقي.. أجرب حلاوتها التي يستمتع بها علي.. يقول إنه الوحيد الذي يعرف سر تلك العصا.. لابد أن أكتشف السر أنا الآخر.

كان الشيخ يخرج الأولاد الذين لم يحفظوا كي يضربهم بالعصا، خرجت معهم وأنا فرحان ولكني كنت متوجساً بعض الشيء، كنت أول واحد في الصف، تعجب الشيخ، وضع الفلكة في قدمي، شد وثاقي ولد سمين، انهال علىّ ضربا.. كانت مؤلمة، مؤلمة، لم تكن حلوة أبداً.

بدأت أتراجع، أقرأ بصوت متقطع وهو يستمر في الضرب.. لم يتوقف، كأنه يعرف ما يدور بخلدي.. تبدلت تماما صورة القصب والجنة التي منها تلك العصا.. كانت نارا.. نارا مشتعلة!!

 

رقصة

 

السماء أعلنت غضبها في الليل فصار النهار طينا، عمال السكة الحديد يحاولون تبديل القضبان المنهكة بأخرى، الطين المختلط بالحصى يملأ أرضية المحطة فيكوِّن طبقة تعلق بالأحذية.

تماسكت حتى وصلت إلى مكان أقل طينا- تحت الظلة- انزويت ونفسي وبدأت أنظف حذائي المثقل بحكه في حديدة، أصدر ذلك صوتا أثار احتكاك أسناني، وجدتني أردد أغاني الشتاء:

-           لما الشتا يدق البيبان، لما تنادينا الذكريات.

فتاة تقف على الجانب الآخر تنظر إليَّ.. أراها منذ أكثر من عام تختبئ خلف نظارتها لكني لم أسع لشيء.. كنا نرسم طيوراً من الطين وتصر البنات على هدمها وتحويلها لطين، ويلعبن الصندوق، بدأت الفتاة تنظف حذاءها، نظر إلىَّ شخص بجواري، تأفف من حذائه وبدأ ينظفه فأصدر ذلك صوتاً زادني دفئاً، رآه شخص بجواره ففعل مثله وبدأ يحك بشدة، بدأت المحطة كلها تنظف، كانوا جميعاً يتمايلون، لم تمنع صفارة القطار صاحب الحذاء المحمل بالطين أن يواصل، شق صوته موسيقانا، توقف، لمنا في جوفه، كان مسعود يلم العيال في الدرس الخصوصي ويسخر مني ويقول بشفتيه الممطوطتين "ادرس في المدرسة واطحن في الدرس" والعيال يرقصون على قش الأرز في موسم الضم وإيمان تشبك يدها الصغيرة بيدي، انطلق القطار، مازال راكب لم يلحق به يرقص، كانوا جميعاً داخل القطار يرقصون رقصة جديدة، طارت طيوري التي من الطين.. توحدت معهم.