كنوز| خفة ظل «شيخ الملحنين» فى مرآة عميد الرواية العربية

بعد 4 ساعات تم الصلح بين الشيخ زكريا وأم كلثوم بالمحكمة
بعد 4 ساعات تم الصلح بين الشيخ زكريا وأم كلثوم بالمحكمة

عندما تمر بنا ذكرى ميلاد شيخ الملحنين زكريا أحمد فى السادس من يناير، وذكرى رحيله فى 14 فبراير نستعيد ما تركه لنا من كنوزٍ غنائية ما زالت تُطربنا بأصوات كبار نجوم الغناء وفى مقدمتهم أم كلثوم، وتتسم أغلب ألحانه بخفة الظل والتطريب والتعبير حسب الموقف والكلمات التى تنعكس عليها شخصيته التى كانت تتميز بالسخرية والفكاهة التى ينافس بها ظرفاء عصره، ويصفه الموسيقار محمد عبد الوهاب بأنه كان ميالاً للمرح حتى فى الشكوى والأنين، وقال عنه رياض السنباطى: «كان همزة الوصل بين مصر التى ترتدى الجلباب ومصر التى ترتدى البدلة الأوروبية».

بينما يقول عنه أديب نوبل نجيب محفوظ «الشيخ زكريا من أظرف الشخصيات التى قابلتها فى حياتى، وهناك صفة مشتركة جمعته بتوفيق الحكيم الذى كان صديقاً مشتركاً بيننا، وكلاهما إذا تحدث يمسك بالحديث حتى نهايته، الفارق أن الحكيم كان يتحدث عن نفسه فقط، أما زكريا فكان يؤدى دور الراوى فيسرد أحاديث متصلة لا تنقطع حتى إنى أظن أنه مؤلف «حكايات ألف ليلة وليلة»، كان من الممكن أن يبدأ فى رواية أى حكاية فى التاسعة مساء ولا ينهيها قبل الثالثة صباحاً، وكان من الممكن أن يحكى حكاية تبدو سطحية لكن طريقته فى الأداء كانت تضيف لها سحراً وجاذبية.

فكان يصف مشهداً لجارته وهى تقول: «صباح الخير يا زكريا يا ابني» وبتقليده لصوتها بطريقة كاريكاتيرية كان يجعلنا لا نتمالك أنفسنا من الضحك، كانت الألحان تأتيه وهو جالس معنا، وأذكر أنه لحن أغنية «حبيبى يسعد أوقاته» لأم كلثوم وهو يجلس معنا على المقهى، وفى مراتٍ عديدة كان يضع لحنين مختلفين لأغنية واحدة ويعرضها علينا لنختار الأفضل، ولم يكن الشيخ زكريا يحب القراءة، وربما كانت روايتى «زقاق المدق» هى روايتى الوحيدة التى قرأها وأعُجب بها للدرجة التى جعلته يعيد صياغتها ويحكيها أمامنا كأنه مؤلفها، وترجع معرفتى بالشيخ زكريا إلى الصديق المشترك صلاح زيان وهو من الأعيان بالعباسية الذى تعود على إقامة سهرة يومية فى بيته يحضرها الشيخ الذى كان عندما يتحدث لا يستخدم مصطلحاتٍ ثقافية أو فكرية لكنك تشعر أنك أمام رجل شعبى وابن بلد ملىء بالموسيقى، وشخصيته غاية فى الطيبة والإحساس بالمودة الدافئة نحو الناس وما كنت أظن أنه يمتلك كل هذا القدر من الكبرياء الذى جعله يختلف مع أم كلثوم، لأنها كانت تعطى له أجراً مماثلاً للملحنين الذين يتعاملون معها بينما هو كان لديه إحساس بأن ألحانه مميزة عن ألحانهم.

ويسرد الكاتب الكبير صبرى أبو المجد عشرات المواقف والأحداث التى تترجم خفة ظل الشيخ ونوادره الفكاهية فى كتابه «زكريا أحمد»، فيقول: إن إدارة الأزهر الشريف أوقفته عن الدراسة لمدة شهر وحرمته من المكافأة المالية الشهرية، لضبطه متلبساً وهو يأكل «البسطرمة» على المقهى والعياذ بالله!، وعند عودته للدراسة سأل شيخه: عن جواز أكل لحم الجمل الكبير وعدم جواز أكل الجمل الصغير، وظن أستاذه أنه يتهكم فانهال عليه ضرباً وبادله زكريا الضرب حتى سال دم الأستاذ واقُتيد التلميذ المشاغب لقسم الشرطة، وفُصل بعدها من الأزهر نهائياً !

ويقول الكاتب الكبير صبرى أبو المجد: إن الشيخ زكريا كان يتسم بالكرم والطيبة ونقاء السريرة، كان يعود لبيته فى وقتٍ متأخر من الليل، فشاهد سيدة تغط فى نومها وأمامها «مشنة» فجل وجرجير، أيقظها ونفحها أضعاف ثمن الخضرة وأمرها بالانصراف لتنام فى حضن أولادها اليتامى، وحمل المشنة على كتفه وسار، وعندما رأت زوجته بذلته الرندجوت الفاخرة التى أتلفتها المياه المتساقطة من «المشنة» صرخت فى وجهه «إيه اللى انت عامله فى نفسك ده؟»، روى لها القصة فقالت له: «طب كنت اديها الفلوس وسيب لها المشنة باللى فيها»، فقال: «لو فعلت هذا لظلت جالسة ولن تذهب لأولادها !»، فقالت: «وها نعمل ايه بالخضرة دى كلها ؟»، قال: «وزعيها على الجيران»، فى مساء اليوم التالى قابله جاره قائلاً: «الخضرة دى أكيد من عزبة حضرتك؟»، ضحك الشيخ وهو يقول: «أيوه من العزبة اللى أنا زرعها فوق السطوح»!.

وعندما نُقل صديقه اللواء حسن خالد إلى محافظة أسوان مديرًا لأمنها فى شهر يوليو الحار جداً، بعث له الشيخ ببرقية يقول فيها: «تستاهل أكتر من كده»، وقال صديقه : إن العبارة حيرته ولم يعرف إن كنت عبارة تهنئة بالترقية أم تشفى فيه لنقله إلى أسوان فى عز الحر!، وبخفة ظله كان يردد دائماً عبارة شهيرة يقول فيها: «كل من أقابلهم يقولون «عليَّ الطلاق»، مسمعتش حد يقول مرة «علىّ الجواز»!. وروى الحاتى الذى كان يتردد عليه الشيخ بالسيدة زينب، أنه كان يغدقُ على الفقراء الذين كانوا يعرفون موعد وصوله للمطعم، وكان هناك «كلب» عجوز لا يقترب من المطعم إلا إذا شاهد الشيخ، ولفرط حبه فى وفاء هذا الكلب أمر الحاتى بأن يقدم له رغيف كفتة على حسابه فى الليالى التى يغيب فيها، فقال الحاتى: «للأسف يا أستاذ الكلب ده بالذات ما بيقربش من المطعم إلا أما بيشوفك»، فقال الشيخ: «ما هو ده الوفاء النادر، الجعان له لسان يعبر به عن جوعه، أما العجوز المسكين ده كلاب الحته مش مهنينه على لقمة، أبقى نزل له ربع كفته على حسابى !».  

ويقول الكاتب صبرى أبو المجد: إن الشيخ زكريا كان معتزاً بكرامته ولا تلين له قناة عندما يكون له حق يقاتل من أجله، وهذا ما جعله يدخل فى خلافٍ حاد مع أم كلثوم التى ساهم فى اكتشافها ولحن لها روائع ما غنت، وسبب الخلاف أنها رفضت ان يأخذ حقه فى الطبع الميكانيكى عن الألحان التى صاغها لها، وتحول الخلاف لقطيعة امتدت 13 عاماً فشلت خلالها كل محاولات الصلح، وأصر الشيخ على مقاضاة أم كلثوم وإحضارها للمحكمة التى تكالب عليها عشاق الست وعشاق الشيخ، واستغرق القاضى عبد الغفار حسنى أكثر من 4 ساعاتٍ للتوفيق بينهما، انتهت بإشادة أم كلثوم بما يليق بمقام الشيخ الذى تأثر بكلماتها وقال للقاضى: «أم كلثوم هى سيدة مطربات الشرق..

لا الفلوس بتدوم ولا الشتيمة بتلزق»، واتفقا بحضور رئيس الإذاعة على التعاون فى ثلاثة أغانٍ يتقاضى 700 جنيه عن كل لحنٍ منها، وقدما معاً «هو صحيح الهوى غلاب»، ورحل بعد شهرين قبل أن يستكمل لحن «أنساك يا سلام» وترك الشيخ زكريا 1600 أغنية من أهم كنوز الغناء العربى.