«النمل الأبيض» 6 قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

الدكتور طارق الزيات
الدكتور طارق الزيات

الحلقة السادسة

كانت أيامنا في بيت جدتي هادئة عدا تلك الأيام التي كانت تأتي فيها أمي، أمي تتهم جدتي أنها لم تدعمها ولم تقف في صفها وأنها حرمتها من شقة الحضانة، جدتي الحازمة أشارت إلينا وقالت إن الطفلين هما من يستحقان دعمها بعد أن تسببت هي وأبي في هدم البيت وأفقدانا الشعور بالطمأنينة، تذمرت أمي وقالت مالهما الطفلان، تعجبت جدتي وحزنت أنا، مالنا؟ ألا ترين؟ نزعنا من بيتنا وفقدنا تلك الأركان الصغيرة التي كنا نطمئن لها وتباعدنا عن أبينا ولولا جدتي لكنا الآن نعاني الأمرين، على كل لم نر أمي إلا مرات قليلة بعدها وكان أطول بقاء لها معنا عندما رزقت بطفلة من زيجتها الجديدة بعد ثلاثة أعوام من الزواج، نعم لقد أصبح لنا أخت غير شقيقة.

أخذتنا جدتنا من يدينا وربتت على رأسينا وقادتنا إلى غرفة المعيشة حيث أدارت التليفزيون وطلبت منا ألا نخرج من الغرفة، سمعناها تتحدث لأمي وتحذرها أن تتحدث عنا بهذه الطريقة، وإنها إن لم تكن قادرة على إظهار بعض العطف والرحمة تجاهنا فلا داعي أن تأتي خلال الأسبوع وأمامها يوم الجمعة تستطيع أن تجتمع فيه مع العائلة، كان صوت باب الشقة وهو يصفق قد أحدث جلبة هائلة حتى إنني جريت لأرى ماذا حدث فوجدت جدتي تطمأنني وتطلب مني أن أحضر أنا وشقيقتي حيث كانت تعد لنا بعض السندوتشات.

شعر أبي أن العبء على جدتي كبير فطلب منها أن تقبل مبلغاً زيادة على مبلغ النفقة، وقال لها قبل أن يصطحبنا إلى الخارج يوم الجمعة إنها يجب أن تحضر من يعاونها في المنزل، رفضت جدتي تماماً أن تأخذ أي مبلغ زيادة وقالت له إنه لو كانت الأمور ميسرة لكانت رفضت مبلغ النفقة منه وإن أسعد لحظات حياتها عندما تقوم برعايتنا.

جرت السنون سريعاً، ودعنا الطفولة أنا و شقيقتي ودخلنا في طور المراهقة، بالطبع سبقتها إليها، في الخامسة عشر من عمري، تطلقت أمي من زوجها بعد الولادة بسنة واحدة وأخذت الحضانة وشقة الزوجية منه، هنا طلب أبي من جدتي أن تتفهم موقفه وأخبرها أنه سيرفع دعوى حضانة كي يحصل على حكم بضمي إليه ولكنه سيتركني معها ولن يتغير في الأمر شيء إلا إذا هي طلبت منه أن يأخذني أو كانت هذه رغبتي، تعجبت جدتي من طلبه فقال لها إنه لا يريد مشاكل مع أمي لو عادت وطلبت الحضانة كي تأخذنا وتأخذ الشقة، وإن المسألة شكلية لا أكثر واستحلفها الله ألا تغضب أو تحزن من تصرفه، تفهمت جدتي الأمر وتفهمته أنا أيضاً ولم يكن لدي أي نية أن أترك شقيقتي وحدها مع جدتي، لقد أصبحت شقيقتي ملتصقة بي ومصاحبة لي طوال الوقت، كانت تحب جدتي وجدتي تحبها لكني الوحيد الباقي من شظايا البيت الذي تهدم.

وافقت رسمياً على ضمي لحضانة أبي وبعدها بعامين وافقت شقيقتي، وبقينا كما نحن مع جدتي، خلال هذه المدة التي طالت لسبع سنوات، سمحت لنا جدتي أن نسافر في أحيان كثيرة مع أبي، واحدة من هذه الرحلات كانت للخارج، اقتربنا كثيراً من أبي، أصبحنا أكثر إدراكاً، كان أبي على حاله هادئ يتعامل مع كل الأمور ببساطة، لم يكن يستغل أزمتنا كي يبدو في مظهر المحب العطوف على حساب تربيتنا وتأهلينا، رفض طلبات كثيرة لنا، كان رفضه يأتي بعد نقاش واستماع جيد لي ولشقيقتي حتى ننتهي جميعاً للنتيجة التي قررها هو من البداية، لم يكن يحب أن يتخذ قراراً دون أن يبصرنا بالسبب، لم نكن سعداء ببعض الأمور التي رفضها ولكننا كنا متفهمين وجهة نظره، اليوم أجد أنه كان على صواب فيما قرره في الماضي.

على طاولة الطعام في أحد المطاعم ونحن في انتظار فنجان القهوة الذي اعتاد أبي أن يأخذه بعد الغداء، ألح  عل سؤال، سألت عن السبب الذي من أجله لم يعد إلى بيتنا حتى الآن بعدما تركته أمي، ولماذا استأجر شقة أخرى يقيم فيها، نظر إلي وهو ممسك بيد شقيقتي وقال لي أنه لم يطق دخول البيت مرة أخرى ونحن لا نقيم فيه، لا أعرف لماذا باغته بالسؤال التالي وقلت له بدون وعي هل نحن تشمل أمي.

صمت أبي وهو ينظر إلى الطاولة وطلب مني أن أساله سؤال مباشر لأن سؤالي يخفي خلفه سؤال، كان سؤالي بالفعل يحمل في طياته سؤال آخر، سألته في تردد عن سبب طلاق أمي، لم يتسرع أبي بالإجابة ولكنه سألني إن كان هذا الأمر يعني لي شيئاً مهماً أم إنه الفضول، قلت له الاثنان.

أخذ أبي رشفة من فنجان القهوة وركزنا نظرنا أنا وشقيقتي عليه في انتظار الإجابة التي ستقضي على حيرتنا وتكشف السر الغامض وراء الطلاق، ابتسم أبي من تركيزنا وتحفزنا، وقال ما بالكم تنظرون إلي هكذا كما لو كنت سأذيع سراً خطيراً، ابتسمنا ابتسامة سريعة وعدنا لتركيزنا كي لا يتهرب من السؤال، قال ببساطة إنه طلقها استجابة لطلبها، وإنه ماطلها في القرار قرابة السنتين على أمل أن تتراجع حفاظاً على البيت وعلى حياة الأسرة، ولكنها أصرت وأصبح الأمر يمس كرامته فهو لم يستطع أن يقبل أن تعيش معه مجبرة، وعلى الرغم من أنها كان يمكن أن تخلعه ببساطة لكنها أرادت أن تحصل على حقوقها وأن المسألة المالية كانت مهمة بالنسبة لها.

أحببت أن استرسل كي أعرف سبب طلبها الطلاق وكدت أن أتحدث عن زواجها، هنا كان أبي حاسماً وقال لي بنبرة قوية خالية من الغضب إنني لا يجب أن أخمن أسباباً وإنني يكفيني أن أعرف أنها طلبت الطلاق وإنه لم يكن من أراد هذا الأمر، كما إنه لم يفتش أبداً عن سبب طلبها رغم أنه قد طلب منها أن تحدد ما تريده ويجعلها تتراجع عن طلب الطلاق ولكنها أصرت دون سبب.

ندمت كثيراً على سؤالي، وشعرت شقيقتي بالحرج، لم يفت هذا أبي فقال لنا، بالنسبة لي قد أنبتت صلتي بها، وهي غريبة عني، لكن رابطتها معكما لا يمكن أن تنبت، حذار أن تسيئوا إليها أو أن تنكروها عند الكبر، أقول لكم هذا لأنني أريد لكم الخير، لن تعلموا مدى ألمي لما عانيتماه، لقد أردت أن أنهي الأمر بيني وبينها بلا صراع ولا أذى لكم، ولكن هذا ما حدث وأتمنى أن يأتي يوماً تتخطون فيه كل هذه الأمور.

التفتت شقيقتي واحتضنت أبي وهو يربت على كتفها ثم قبلها وقال، أنت ستلتحق بالجامعة بعد أيام قليلة وشقيقتك ستلحقك بعدها، لا تفكروا كثيراً، يجب أن تكونوا ممتنين لجدتكم، أريدكم معي ولكن لا أريد أن أكسر خاطرها، ولكن لو أردتم أن تبقوا معي فعليكم أن تطلبا إذناً منها، جدتكم بمثابة أمي ولن أرض أن نتنكر لها بعد ما قدمته لكما.

يتبع.