«رياح القهر» قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة| تونس

الهادي نصيرة
الهادي نصيرة

 يجلس قصي في غرفته، منشغلا بإعداد دروسه استعدادا للامتحانات... تلوح في نظراته علامات الحزن، والشرود، وعلى وجهه النحيف آثار التبرم،  والضجر...

منذ بضع سنوات، اختطف الموت أمه، فجأة، وتزوج أبوه بعد أشهر من وفاتها...

 ذات مساء، يقف الأب موصيا ابنه قصي :

« أريدك دائم الاجتهاد في دراستك يا قصي! هاهي ماما سنية، أمك الثانية التي ستقف إلى جانبك، ولن تبخل عليك بالمساندة.»

فيرد قصي: « مرتاح أنا للمعاملة الجيدة، و جاد في العمل، كما أوصيتني يا أبي ! »

لكن خبر حمل زوجة أبيه غيّر مسار تلك المعاملة الحسنة، التي حظي بها في السابق، إلى اتجاه معاكس، إذ بات الولد عرضة للتحقير والإهانة بسبب وبدونه ؛ يعيش تحت سطوة الظلم ، فيحرم تارة من الطعام، ويجبر، طورا، على القيام بأعمال المنزل، دون أن يترك له المجال لمراجعة دروسه، حتى آل به الأمر إلى تقهقر نتائجه الدراسية، وتدهور معدله الثلاثي، وتأخر رتبته تأخرا لا عهد له به من قبل...

تواصل رحلة الحياة مسارها، وتزداد ظروف قصي جهامة وبأسا، وينحدر مستوى عيشه من سيء إلى أسوأ ، وتكشر أيام الغبن عن أنيابها، لتريه من بؤسها أصنافا، وتذيقه من عذابها ألوانا ؛ فلا زوجة أبيه رحمت دمعا ترسب في مآقيه، و لا أبوه سارع لإنقاذه من قهر أنشب فيه مخالبه، وما انفك يبكيه...

ذات فجر، تسلل خارج المنزل، وليس في ذهنه اتجاه محدد ينوي السير فيه، ما يجول في خاطره، آنذاك، وقبل كل شيء،  أن يفر بجلده من واقع قهري، لم تعد له طاقة على تحمل عذاباته، لتنتهي علاقته بذلك المنزل وبساكنيه، و يقطع صلته بالمدرسة وبمن فيها...

 لقد أصابه اليأس، و لم يعد لديه أمل في العثور على حضن  يستجير به، أو قلب يلجأ إليه... و أمسى، هكذا،  في ظلمة حالكة، لا أثر فيها للرأفة والأمان، تلتقمه الشوارع،  متأرجحا بين أوجاع الأسى، وآلام الشجن. يهيم على وجهه في ليل موحش بلا آخر، تائها كالمبحر في سفينة دون شراع، تتقاذفها الرياح والعواصف، توشك على الغرق، ولا منقذ يمد يده ليساعدها، ولا صوت يصغي لاستغاثاتها المتكررة...

يتململ الأب، دون أن تتراءى له الحلول، فيكتفي بإبلاغ الشرطة عن الغياب، قبل أن يمر ، باحثا، عن رفاق ابنه من فتيان الحي، ليسائلهم إن كانوا قد التقوه ، فيجيبوه بالنفي...

و بعيدا عن ذلك المكان، حيث يمتد الشارع ويطول ، تتزاحم قوافل السيارات، أمام الضوء الأحمر، متوثبة للإنطلاق، وضجيج محركاتها ينساب متدفقا، كمياه النهر الهادر...

و ما بين الصفوف والصفوف، يسعى الفتى، ليكسب قوت يومه،  رافعا بيده علبة المناديل الورقية، وعارضا بيعها للسواق ...

يقابله أحدهم بوجهه المتجهم، مغلقا أمامه نافذة السيارة، فيتراجع إلى الخلف...  يناديه آخر بكل لطف، فيغير الاتجاه صوبه، ليناوله ما يطلب... ثم يقترب من آخر، لكنه سرعان ما يستدير، حين يومئ له الرجل برأسه أن لا حاجة له بالشراء، دون أن ينظر إليه...

تغدو أيام الشقاء وتروح، متشابهة في رتابتها وعسرها، و في عتمة الليل، يأوي قصي إلى إحدى زوايا الشارع، بعد خلو المكان من الحركة، فيفترش الأرض، ليركن للنوم، تحت لسعات البرد، ووطأة الإرهاق...

لا تتوقف طاحونة الأيام عن دورانها أبدا. وبين يوم وآخر، يقبل الولد على التدخين بكل شراهة، يلتهم السجائر، إلى أن يمسي فريسة الإدمان. و يمضي في ذات الطريق، تتهدده أخطار آفات أخرى، ليس باستطاعته أن يدرك، بالضبط، حقيقة مآلاتها ...

وفي بوتقة حياته الشقية، التعسة، لا يفتأ يصارع لأجل الاستمرار، بالقرب من أولئك المنسيين، القابعين في ذات القاع السحيق...

ويبدو من الصعب عليه أن يتأقلم مع إيقاع حياة أولئك، الذين ظلمتهم الدنيا، فقست قلوبهم حتى استحالت كالحجارة أو أشد قسوة...

يتلقى الأب، ذات مساء، نبأ إيقاف ابنه قصي بتهمة ترويج المخدرات، أمام أحد المعاهد الثانوية بالمدينة... يسحبه الصمت للحظات، ويكتنفه شعور مبهم، ثم يقفز كالمعتوه، ويغادر البيت، غير آبه لنداءات زوجته، مسرعا يمضي، لا يلوي على شيء ...