«شعر البنت» قصة قصيرة للكاتب محمد عبد الحافظ ناصف

محمد عبد الحافظ ناصف
محمد عبد الحافظ ناصف

 كل يوم يحترق شعر البنت ويتساقط ويحترق معه قلبه، كيف لبنت لها وجه الصباح وعين البحر أن تكون بلا تاج يزين تلك المملكة. لف بها على كل أطباء الجلدية في المدينة والمدن المجاورة، لم يترك وصفة إلا أحضرها، ذهب للمقابر وأحضر صباراً من فوق شاهد قبر لشاب لم يتزوج، كم دفع لخفير المقابر حتى يعرف، حتى عصير الجرجير مع البصل والثوم لم يؤثرا.

أحضر بول حمار وغسل رأسها لكن الأمر ازداد سوءاً عن ذي قبل، تحاصره نظرات الأم وتتهمه بمستقبل البنت الأسود إن لم يجد حلاً، ذهب إلى كل أشجار الجميز وغسل رأسها بلبنها لمدة أربعين يوماً لكن لم تشق رأس البنت شعرة واحدة.

ظل يحلم بتلك الشعرة ليلاً ونهاراً، أصبح كل شيء يفعل لأجل ذلك، الطعام المفيد للشعر وللجلد، الشراب المغذي للبشرة، الدعاء المستمر، حتى الجدة ذهبت تحج هذا العام من أجل شعر الصغيرة، رن جرس التليفون فدق قلبه، ينتظر آخر وصفة من أخته بعدما فشلت وصفة حماته.. لهف السماعة من زوجته، أخذتها منه أمه بهدوء.

-           دا الحل الوحيد.

وضعت الأم السماعة ببطء، وأخذت زوجته من يدها وهمست لها، بانت ابتسامة خفية على وجه الزوجة كضوء شارد اختفى في ليل تكسوه سحب داكنة، قالت خائفة:

-           لن يرضى.

-           كل مرة يعترض ثم يوافق أمام حبه لها.

-           أعرف أنه يحبها بعنف.

-           لأنها تشبه والده وجدته.

-           النجاسة علاجها أنجس منها.

اقتربت منه الزوجة بعدما غابت الأم في المطبخ تجهز وصفة "الرجلة مع الزنزلخت" التي وصفتها الحاجة اعتماد وأقسمت أنها صحت مع ابنتها منذ عشرين سنة، اقتربت الزوجة منه أكثر وتمسحت به، فاحمر وجهه خوفاً من الأم القابعة في المطبخ والتي تعطي أذنيها حتى ولو لم تقصد، ابتعد عنها قليلاً، اقتربت منه، قالت هامسة:

-           يوجد حل قالته أختك لأمك.

-           ما هو؟

-           لا تغضب.. خلق الإنسان من ماءٍ دافق.

-           كيف؟

-           قالت أمك النجاسة علاجها أنجس منها.

-           الماء الدافق ليس بنجاسة ولكن مجرى البول هو الذي نجس.

انزوى في كرسيه، نظر من الشرفة التي تطل على الغروب، ويعشق رؤية الشمس وهي تغادر إلى للبلاد البعيدة، نظر لزوجته التي لم تقابله لقاء الأزواج منذ شهرين، لمح ابتسامه أشرقت ثم ما لبثت أن غابت سريعا لما رأت بعض شرود خيم عليه، تذكر تماماً ما حدث آخر مرة، كان شارداً كما قالت له وكانت تعتقد أن الأمر لن يتعدى أسبوعاً وستعالج الرأس، فأقبلت عليه نهمة ككل مرة، مثل أول مرة تقابلا وأغلقا عليهما باباً واحداً، لكن أفكاره كانت تتساقط منه، لم يشعر بدفئها ولم يتجاوب مع موسيقى الجيتار الرومانسي الذي أحضره معه من باريس ولم ير حتى ضوء الشمعدان الذي يذوب معه، أغلقت الأم بعنف كي يبدأ محاولتهما لإحضار الماء الدافق، اقتربت منه زوجته ثانية فلم يبعدها.

-           موافق.

لم يرد، ذهبت مسرعة لتجهيز أشياء يشعر أنها أكثر قيمة من مجرد اللقاء، أطفأت أنوار الشقة، أضاءت الشمعدان فأشرق نوره الخافت في الظلام داخل نفسه المحبطة، ارتفعت موسيقى الجيتار الرومانسية عالياً، بدأت تراقصه بعدما ارتدت قميصاً أبيض يعشقه، فمد يديه، دخلت بين ذراعيه، تداخلا، امتزجت ضلوعهما، صارا واحداً، عقله مشغول بالذي سوف يسري في ظهره حتى يصل إلى كوبه الذي لا يشرب الشاي إلا فيه، همَّ، لكن شيئاً يمنع تقدمه وشيئاً ما يقف حائلاً دون انسياب ما يبغي، ضوء الشموع يتجه نحو الكوب ينتظر ساعة الإفراج عما يكمن في بئر سحيق، يضمحل ماؤه شيئاً فشيئاً حتى صار غوراً، ازدادت تلاحق أنفاسه، ربتت على ظهره بأيد حنون، مسحت شعره المنساب على عينيه، تضاعفت نبضات قلبه، كانت وخزات تنفذ في صدرها وترتد له، نشف ريقه، تذكر النصيحة التي لم يسمع غيرها ليلة زفافه ولم تسمع هي الأخرى غيرها.. تردد صداها في سمعه سخيفاً:

-           إياك والماء البارد.

لم يهتم أول مرة، مد يده شرب كوباً من الماء البارد الذي عاجله بتكوين حبات عرق بلورية على جبهته، أحضرت فوطة ومسحت عرقه في حنان بالغ، قالت بهدوء وثقة فيه:

-           أنت تفكر لذا انسحب منك ما تريد.

-           نعم.

-           دع نفسك لي.

بقوة أطفأت أنفاسه نور الشمعدان، فأضاء الكهرباء رغم أنها أرادت إشعالها، انسحب نحو الشرفة يشم هواء بارداً، اختفت داخل حجرتها، وصل شريط الموسيقي لآخره، ارتدت "روب" أسرعت إليه ربتت على ظهره فغار ما تبقى من حماس كان ينوي فعله في ليال بعيدة.

-           نحاول ثانية.

-           لا.

-           والبنت.

-           نجرب وصفات أخرى، نتخيل أنها فشلت.

-           لم نجربها بعد.

-           لدي حل آخر، أحضري لي كوباً من اللبن البارد أشربه.

خرجت تجرجر إحباطها، علبه اللبن قاربت على الانتهاء، لم يكمل ما فيها، أحضرتها في تردد، فما فعله منذ قليل رغم خيبة النتيجة يحتاج معه لكيلو لبن يشربه وينام، أخذ منها الكوب وشرب، وطلبت منها أن تغلق عليه الباب وتنام، ذهبت لكنها لم تنم، فكرت فما يفكر فيه، لكنها تعرف مدى المعاناة التي يلاقيها إن فعل فقلبه لا يحتمل اللقاء الطبيعي فكيف يحتمل إثارة مفتعلة، فكرت أن تعود له، تمنعه،  تراءى لها شعر البنت المتساقط، سكنت مكانها، حاول إثارة نفسه، تذكرها ساعة الليالي الصفاء، لكن الصورة تأتي دائماً مشوهة ويفسدها شيء ما يجعله يتراجع ثانية، قام يبحث عن صورة مكشوفة لكنه لم يجد، فقد كان حريصاً على أن يقطع تلك الصور أولاً بأول، لو أنه أحضر مجلة من "البلاي بوي" من باريس مثل الكثيرين من زملائه الذين تبهرهم الصور، حاول مع نفسه لكنه تراجع أكثر وأكثر، أحس أن تلك الرغبة اختفت داخله، توارت حتى صار كائناً حيادياً لا يدفعه شيء نحو الطرف الآخر.

ازدادت ضربات قلبه كالطبل المعلق للحرب، تقطعت أنفاسه، أمسك كوب اللبن، كان به بعض رشفات قليلة، تناول ما به، طرقت على الباب رغم رقتها إلا أنها كانت كوخزات الدبابيس في قلبه، توجعه، ماذا سيقول لها، سوف تعرف الأم، وشعر البنت الذي لن ينبت إلا بذلك، قام، فتح الباب بتثاقل شديد، نظرت لكوب الشاي الفارغ وكوب اللبن المشروب لآخر نقطة فيه، تغير وجهها، ارتمى على الكنبة، ارتمت عليه تدلك يديه وتمسح عرقه المتساقط كاللؤلؤة، انسحب دمه، اصفر فاصفرت معه، ارتخت العينان، صرخت، حاولت أن تساعده لاسترداد أنفاسه المتقطعة، طرقات على باب الشقة، أسرعت تفتح.

تفيض عين الأم الواقفة على الباب بالأسئلة، أسرعت إليه، وضعت رأسه على رجليها الطريتين، بدأ يلتقط أنفاسه الهاربة، مسحت رأسه، قرأت الكثير من إجابات العجز تنط من عينيه دون سؤالها له.

-           ولا يهمك!!!

انكسر وزوجته مطأطئة الرأس أيضا، لو تنشق الأرض الآن وتبتلعه، أخذت الصغيرة التي لها وجه القمر في يدها وخرجت دون أن تنظر لها ودون أن تساعده أن يقف، حاول أن ينهض من مكانه فلم يستطع.

جلست زوجته وارتخت هي الأخرى، ارتفع صوته داخلها، كيف لبنت لها وجه الصبح وعين البحر أن تكون بلا تاج يزين تلك المملكة؟!