«النمل الأبيض» 3 قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

الدكتور طارق الزيات
الدكتور طارق الزيات

الحلقة الرابعة

لم يكن هناك ما هو أشد قسوة علي من حدة أمي إلا هدوء أبي المبالغ فيه، كان يتعامل مع هذه الكارثة كمن يتعامل مع خدش في سيارته أو زر قميص مقطوع، كان يتعامل بلا شعور بالغضب أو الألم، هذه هي طبيعته التي عرفته عليها قبل أن يطلق أمي، ظننت أن كل الثورة و الغضب و الهلع و الخوف الذي يعتمل في صدري يجد صداه في قلبه، لكنه لم يدرك حجم معاناتي و معاناة شقيقتي التي ساءت حالتها النفسية و ارتدت على صحتها فباتت هزيلة لا تقبل على الطعام بعدما افتقدت حنان أمي الغاضبة غضباً هستيرياً طوال الوقت.

اعتقد الآن أن شعوري كان صحيحاً، لقد كانت أمي ترانا عبئاً عليها، لقد خرجت من الزيجة بحمل ثقيل، عندما كبرت أدركت أن بعض النساء كن ليفضلن الطلاق قبل أن ينجبن أطفال يجرجرونهم وراءهن كما يصفون الأمر، يا ليتهما فعلاها قبل أن نولد، لما كنت حاضراً الآن أجتر آلامي و آلام شقيقتي فهي آلام لا ترحل عن صاحبها مهما طال الزمن.

عندما جاءت جدتي إلى المنزل لزيارتنا في عطلة نهاية الأسبوع،  تفقدت حالنا و هالها ما نحن فيه، سألت أمي عن سبب هزال شقيقتي، ردت أمي عليها بحدة و هي تسبنا فما كان من جدتي إلا أن عنفتها و وبختها و طلبت منا أن نرتدي ملابسنا للخروج، أخذتنا كي تروح عنا بعض الوقت، استلزم الأمر منها جهداً كبيراً حتى نرخي حبل الود معها، كنا متوجسين خيفة من كل شخص من طرف أمي، كان الحزن ساكن مقلتيها و لكنها سيطرت على نفسها بقوة و قالت لنا أن هذا الحال لن يدوم، و إنها ستتفقدنا دائماً و لن تتركنا فريسة لغضب أمي.

كانت جدتي قد ترملت في مطلع شبابها، فلتت الكلمات من فمها و هي تحدث نفسها قائلة لو كان جدكما على قيد الحياة لما حدث أي من هذا، يا ليت يا جدتي، ياليت هناك من يكون قادراً على لجم الجميع، لقد تُركنا لمصيرنا.

استمرت الرؤية في ذات المكان حتى قررت أمي أن تحضر معنا في المرة التالية، أصرت جدتي على أن تحضر معها خوفاً من الفضائح، خاصة أن أبي لديه قدرة أن يثير أعصابها بهدوءه و يجعلها تخرج عن طورها.

فوجئ أبي بها، جرينا عليه فلم تمنعنا، ثم جلست أمامه و جدتي بجوارها و قالت له أنها حضرت كي تخبره أنها قررت الزواج من سيد سيده، نظرت جدتي  إليها و هي مذهولة فهي لم تخبرها من قبل، و نظرت أنا و شقيقتي إليها بدهشة في حين قال لها أبي بكل هدوء أنه يبارك لسيد سيده و أن أمر زواجها من هذا المجهول الذي لا نعرف من هو لا يعنيه في شئ ، قالها كما لو كان يتحدث إلى إمرأة لم يعش معها يوماً واحداً تحت سقف البيت، كما لو كانت غريبة عنه تماماً.

قالت له أن الحضانة ستنتقل لجدتي، نظر أبي إلى جدتي و قال لها إنه يريد أن يأخذ الحضانة، قاطعته أمي و قالت له لن تأخذ هذه الحضانة أبدا، لجمتها جدتي و طلبت منها ألا تنطق كلمة واحدة ثم وجهت حديثها إلى أبي مطالبةً إياه أن يتريث و لكل حادث حديث.

انزوي أبي بي و بشقيقتي و كان قد أحضر لنا بعض الحلوى التي اعتاد أن يحضرها لنا و أعطاني حقيبة بلاستيكية صغيرة بها بعض الملابس الجديدة و كذلك فعل مع شقيقتي و قال لنا ألا نخشى شيئاً، فقالت له شقيقتي و هي دامعه أن لا يتركنا تحت رحمة رجل غريب؛ فاحتضنها و قبلها و همس لها ببضع كلمات فابتسمت لأول مرة منذ غادر أبي المنزل.

حان وقت المغادرة فأشارت أمي لنا كي نذهب معها، تدخلت جدتي و قالت لها أن تسبقنا للسيارة، بينما  طلبت منا أن ننتظرها و دار حديث بينها و بين والدي لدقائق، لم نسمع شيئاً إلا جملة واحدة قالتها له قبل أن تغادر " ربنا يصلح الحال "، يبدو يا جدتي أن دعوتك لم تستجب فلقد مضى مشروع الزواج بأسرع مما تصورنا.

لم أجد من يبصرني بحقيقة الوضع الجديد إلا مدرستي، نعم مدرستي، قالت لي أن أمي من حقها أن تتزوج، و لكن ليس من حقها أن تجبركم على الحياة مع زوجها الجديد، و إن القانون أعطاها هذا الحق و لكن الأمومة لا تعطيها الحق في فرض وضع قاس نفسياً على أبنائها، و في النهاية طلبت مني أن لا أتعجل الحكم على الأمور و قالت هي غير مقتنعة بما تقول أن هناك أسر كثيرة تعيش هذا الوضع و الحياة مستمرة.

كان كلاماً كبيراً علي، لم أفهم لم ستجبرني أمي أن نعيش مع هذا المجهول، و لم ستنتقل حضانة شقيقتي إلى جدتي، لم يتعين علي أن أظل معها، لا أريد أن أكون معها و لا مع جدتي، أريد أن أكون مع أبي، مهما كان الأمر و مهما كانت طبيعة الحياة معه فهو أبي، و لا أخفيكم سراً، لقد كان لدي مخاوف كثيرة من ناحيته، ماذا لو قرر هو الآخر أن يتزوج، أين أذهب حينها و هل سيكتب علي أن أعيش إما مع إمرأة  ليست أمي و رجل ليس أبي، إنتابني شعور حينها أنني سوف أصبح شخصاً غير مرغوب فيه، نبتة بلا جذر في الأرض مقتلعة لا حاجة إليها... هل سيفعلون هذا بي و بشقيقتي؟

يتبع

 

 

 

الحلقة الخامسة

كانت معركة كبيرة بين جدتي و أمي، خيرتها فيها جدتي بين حضانتنا و عدم الزواج، أو أن تأخذ جدتي الحضانة و تتزوج أمي، لم تتردد أمي للحظة، و قالت لها خذي الحضانة ففي كل الأحوال لا أريد من يذكرني بهذا الوضيع، فما كان من جدتي إلا أن قالت لها أن عليها أن تتزوج في شقة أخرى؛ لأن الحضانة مع جدتي فلن تستحق أمي شقة الحضانة، لم تكن أمي تأخذ في حسبانها هذا الأمر لكنها في خضم عنادها قالت لجدتي فلتذهب الشقة إلى الجحيم. عندها طلبت منا جدتي أن نجمع حاجياتنا لنذهب معها و دخلت  مع شقيقتي تجمع لها ملابسها بينما أطالت شقيقتي البحث عن عروس لعبة لها كان أبي أحضرها لها في عيد ميلادها و أخيراً وجدتها فوق الدولاب حيث وضعتها أمي هناك بعيداً.

جمعت ملابسي و كتبي و دفاتر الدروس و بعض الرسائل التي كتبتها إلى أبي كي أرسلها له و لم أرسلها له أبدا، حين أقرأ هذه الرسائل اليوم فإنني أشفق على أبي أكثر من شفقتي على هذا الطفل الذي كتبها و الذي ودع الطفولة مبكراً على يديه هو و أمي.

في منزل جدتي رتبت لي غرفة و أخذت شقيقتي معها في غرفتها، ربما كان بيت جدتي ليس حسن التأثيث كبيتنا و لكنه كان محيطاً آمناً لنا شعرنا فيه ببعض الطمأنينة التي افتقدناها في بيتنا.

طلبت جدتي أبي و جلست معه جلسة طويلة لم يخل حديثها معه من لجظات نقد قوية و كان ما آخذته عليه استسهاله الطلاق و لا مبالاته و عدم سيطرته على أمنا، لكنها لم تكن قاسية معه بل قالت له إننا معها و يستطيع أن يأتي وقتما شاء ليرانا ، و إنه من اليوم لا يجب أن يرانا في الساحة الشعبية، كما قالت له أنه يستطيع أن يأخذنا للخروج معه كل جمعة، و إنها لا تفضل أن نبيت خارج المنزل حتى نشعر بالاستقرار، لم يعارض أبي جدتي فقد كان يحبها و يحترمها، و لم يجادلها كثيراً، لكن جدتي اشترطت عليه شرطاً و هو إنه إذا أخذ حضانتي عند سن الخامسة عشر كما يقضي القانون فيجب ألا يحرمها من رؤيتي، هنا تهدجت جدتي و بكت فقام أبي و قبل رأسها و تعهد لها إنه لن يحرمها و لن يحرم أمي من رؤيتي أو رؤية شقيقتي إذا طلبت أن تكون في حضانته،  و لكنه في المقابل طلب منها ألا يتدخل خالي في تربيتنا أو توجيهنا فطمأنته جدتي من هذه الناحية.

قبل أن يغادر أبي وعدنا أن يأتي يوم الجمعة و أن يأخذنا للنزهة و طلب من جدتي أن تكون معنا، لكن جدتي اعتذرت و قالت له إن يوم الجمعة تقضيه في الصلاة و قراءة القرآن و استقبال خالات أمي و ابنتيها.

تنفست الصعداء، ها هو السلام يعود إلى حياتنا مرة أخرى، لا أعرف ماذا كان ليحدث لو لم تتدخل جدتي، لولا شخصيتها القوية و عطفها و محبتها لظللنا نعاني في بيتنا، صحيح أن جدتي جادة و لقد طلبت مني و من شقيقتي أن نلتزم بالدراسة و بالتفوق و قالت لنا أن لا نجعل ما حدث يؤثر فينا و إن بعض الأطفال كن أيتام الأب و الأم و رغم ذلك شقوا طريقهم في الحياة، كانت تتحدث إلينا بعطف و احترام و قالت لي اتمنى أن تحقق أهدافك في الحياة و أن تصبح ما تريده، لم تقل لي كن طبيباً أو ضابطاً، فقط ما أريده، لم أفهم كيف أصبحت أمي على ما هي عليه و جدتي على هذا القدر من الوعي.

أسابيع قليلة و كانت أمي قد تزوجت، حضرت جدتي عقد القران في المسجد، و لولا أنها لم ترد القيل و القال لكانت امتنعت عن الحضور، هكذا سمعتها تقول لخالتي عندما زارتها في مساء أحد الأيام بعد الزواج، لم نر زوج أمي و لا نعرف ماذا يعمل و لا اسمه و أين سيقيمان، شددت عليها جدتي ألا تأتي معه إلى منزلها إلا بعد أخذ موعد حتى لا نكون موجودين، و قالت لها إنها إذا رغبت في رؤيتنا فلتأت وحدها، لم يكن الأمر يفرق مع أمي كثيراً و لذلك لم نراها بعد الزواج إلا مرة واحدة خلال أربعة أشهر، لم تكن مقابلة دافئة، و لم تقبل علينا و لم نقبل عليها و لكنها بدت  ذابلة على نحو بدت معه أكبر عمراً.

كانت مدرستي معي خطوة بخطوة، أخبرتها كل شئ و كل ما يدور في نفسي، قالت لي إنه ليس من العدل أن أحكم على أمي و أبي، و إنني لا أعرف ماذا دار بينهما و كيف انتهى بهما الحال على هذا النحو، و ذكرتني بأنني يجب أن أركز على نجاحي و لا أشغل نفسي بأمور الكبار خاصة بعد أن أن استقريت مع جدتي، أوصتني أن أكون مطيعاً لجدتي و قد كنت كذلك، لقد كنت مطيعاً دوماً، كنت مطيعاً لأبي و مطيعاً لأمي حتى في أحلك الظروف.

في أحدى الجمع و نحن نجلس مع أبي في مطعم اعتدنا أن نذهب إليه قبل انفصاله عن أمي، شعرت أن المكان لم يعد له نفس البهجة التي خبرتها عندما كانت أمي معنا، ربما لم تكن صحبتها تخلو من بعض المنغصات و لكننا كنا نبدوا كأسرة، أسرة عادية، أب و أم و أبناء، اليوم و رغم كل قسوتها و سلاطة لسانها فإن أسرتنا غير مكتملة، كنت أنظر إلى لاشئ فتنبه أبي و كان ينظر إلي بهدوئه المعتاد و تريث حتى انتبهت لعيناه اللتان تنظران إلى عيني فقال لي أن لا أحمل نفسي أكثر من طاقتها و ربت على يدي المفرودة على الطاولة.

لم يذكر أبي أمي مرة واحدة بعد الانفصال، لم يذكرها بسوء أو بخير، لم يسألنا مرة كيف تعاملنا، لم يهتم يوماً بأخبارها، حتى عندما حاولت أن أخبره أنها تزوجت أمسك يدي و قال لي ألا أخبره شيئاً عنها، ما هذا الذي بينكما؟ الذي يجعلك تمحو وجودها من حياتك كما لو كنتما لم تلتقيا أبدأ.

سالت أبي فجأة إن كان سيتزوج، كان منهمكاً في تقطيع شريحة اللحم لشقيقتي، فقال لي لا، قالها وهو ينظر إلى طبقها و بلا أي تعبير و بلا كلمة واحدة تزيد عن لا... لقد كان أبي يستحق دراسة مستفيضة لسبر غوره، لقد كان يمنحك إجابة تفضي إلى عديد من التساؤلات.

يتبع