عبدالحليم قنديل يكتب: المقاومة كخيار استراتيجي

الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل
الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل

قد لا تصح الاستهانة المطلقة بالعمل الدبلوماسى والقانونى الفلسطينى والعربى فى المنظمات الدولية ، سواء فى الجمعية العامة للامم المتحدة، أو فى مجلس الأمن الدولى، أو فى مذكرات كشف وفضح جرائم وماهية الاحتلال "الإسرائيلى" أمام محكمة العدل الدولية، أو فى متابعة دعوى اتهام  كيان الاحتلال بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ، أو فى مطاردة شخوصه ومجرميه أمام محكمة الجنايات الدولية ، وكل هذه المجهودات والمبادرات وغيرها مفيدة قطعا فى خدمة قضية الحق الفلسطينى ، وفى كسب المزيد من الرأى العام الدولى المساند ، وبالذات فى عواصم الغرب الأوروبى والأمريكى ، المنحازة تاريخيا بتياراتها الرئيسية لكيان الاحتلال ، والمعادية بأكثريتها الحاكمة لقضية الشعب الفلسطينى ، وإن شهدت شوارعها مظاهرات عارمة منذ هجوم المقاومة الفلسطينية فى 7 أكتوبر المزلزل ، وما تبعه من فصول حرب إبادة "غزة" ، وبما وسع كثيرا من هوامش التيارات الإنسانية فى الغرب ، ودفع مئات آلاف المتظاهرين ربما الملايين بمبادرات فلسطينية وعربية الأصول ، إلى غضب متدفق ، دفاعا عن فلسطين وأهلها وعذاباتها ، أنتج تأثيرا وضغطا على مواقف الحكومات نفسها ، وعلى نحو ما بدا ويبدو فى تحولات ومواقف عدد متزايد من الحكومات الأوروبية بالذات ، وفى تمرد بعضها على أوامر "إسرائيل" بشل عمل وكالة "الأونروا" لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين .

  صحيح ، أن هذه التحولات الدولية والغربية ، لم تؤد إلى وقف العدوان ومجازره إلى اليوم ، وصحيح أن قرارا دوليا سياسيا أو قانونيا واحدا لم ينفذ ، لكن ما جرى لا يبدو فاقدا كليا لأهميته ، فقد أفاد كثيرا فى عزل كيان الاحتلال دوليا ، وانطوى على هزيمة أخلاقية شاملة لكيان الاحتلال وشركائه ، ودفع الرواية الفلسطينية خطوات إلى الأمام ، فقد مضت عقود طويلة راكدة ، بدا فيها أن قضية الحق الفلسطينى غابت أو كادت عن مرمى الأنظار والضمائر ، ولم يعدها إلى الحياة والاهتمام العالمى ، سوى تصاعد عمل المقاومة الفلسطينية فى السنوات الأخيرة وصولا إلى "طوفان الأقصى" ، وللحرب الجارية بعده ، وبما دفع إلى السطح مجددا بمطلب إقامة الدولة الفلسطينية ، وطرح ضرورة الاعتراف الدولى الرسمى بها ، حتى لدى عدد متكاثر من حكومات الغرب ، وهو ما اعتبره "بنيامين نتنياهو" ـ رئيس وزراء العدو ـ حملة "إملاءات دولية" ، قال أنه لن يخضع لها ، وهكذا صار كيان الاحتلال وحيدا معزولا عن الشعور العالمى بأكثريته الساحقة ، أخذا فى الحساب ، أنه لا جديد فى دعم أغلب دول العالم المساندة لقضية الحق الفلسطينى ، وأن شعوب وحتى حكومات الشرق والجنوب متزايدة الوزن الدولى اليوم ، دأبت على التصويت دوليا لصالح الحق الفلسطينى ، لكن المشكلة كانت غالبا فى مواقف حكومات الغرب ، خاصة فى "فيتو" واشنطن ، وبينها وبين كيان العدو حالة اندماج استراتيجى ، ومشاركة فعلية مباشرة فى العدوان الهمجى البربرى ، وفى تبنى الرواية والأكاذيب "الإسرائيلية" بالحرف والنقطة ، لكن "واشنطن" بدت عارية فى مواجهة الدنيا كلها تقريبا ، واضطرت لإبداء مرونة ومراوغات لفظية ، تساير جزئيا موجات الغضب العالمى شبه العام ، وصدرت عنها تصريحات ملتبسة ، تبدى استعدادها حتى للاعتراف الرسمى بدولة فلسطينية ، وإن كانت باهتة الملامح وبغير حدود متفق عليها ، وعلى أن تكون "منزوعة السلاح" الحربى كما تقول "واشنطن" ، وتنسق أمنيا مع "إسرائيل" ، وكل تلك شروط لا معنى لها ، إلا معنى التعارض البين مع قرارات ما يسمى "الشرعية الدولية" ، التى صدرت منها مئات القرارات عن الجمعية العامة ، وعشرات القرارات الأخرى حتى عن مجلس الأمن نفسه ، وكلها تكفل حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى ، وتؤكد حقه فى إقامة دولته تامة السيادة ، وكل ذلك مما لا تبالى به "واشنطن" ، التى تبدو إدارتها المتتابعة كحكومة ثانية لكيان الاحتلال ، تحارب معه ، وتتبنى ذات الروايات والأضاليل ، لكنها تضطر اليوم لأخذ مسافة ، تبعدها ظاهريا عن حكومة "إسرائيل" الأولى فى "تل أبيب" ، ربما اتقاء لحرج التطابق اللفظى مع حكومة "نتنياهو" الإرهابية ، مع استبقاء الدعم العسكرى والمالى والإعلامى والسياسى المشترك ، وعدم ممارسة أى لون من الضغط الجدى ، وبما يسمح لتيار اليمين الحاكم فى كيان الاحتلال ، أن يزدرى علنا كل موقف دولى ، وأن يرفض بتاتا إقامة أى كيان فلسطينى ، حتى لو كان منزوع السلاح ، وخادما لكيان الاحتلال نفسه ، وقد تبدو هذه الصورة المرئية معاكسة لافتراض جدوى الضغط الدولى القانونى أو السياسى ، ما دامت "إسرائيل" ترمى بالقرارات فى أقرب مقلب زبالة ، وتنفذ ما تريده بدعم أمريكى فعلى لا نهائى ، حتى وإن شابته مناوشات لفظية عابرة .

  والمعنى الذى نقصده ونرجحه ظاهر ومباشر ، فالقرارات الدولية ، قد يذهب مفعولها الوقتى مع الريح ، لكن تراكمها مفيد فى مدى أطول ، وفى ما قد تصح تسميته "ترسيما" لمعركة كسب الرأى العام الدولى لصالح الحق الفلسطينى ، فالشعب الفلسطينى يكافح ضد آخر احتلال عرفه التاريخ الحديث للعالم ، وكسب وتوسيع التعاطف والتأييد العالمى لقضيته عمل مهم ، لكن التعويل على القرارات الدولية السياسية والقانونية وحدها ، لن يؤدى بمفرده قطعا إلى تحرير فلسطين ، ولا حتى لبلوغ كسب محدود فى صورة "الدولة الفلسطينية" المزمعة ، وحجر الأساس فى القصة الطويلة كلها ، أن ينتصر الشعب الفلسطينى أولا لقضيته ، وما من سبيل مفتوح استراتيجيا غير المقاومة ، وبكل سبلها المسلحة والشعبية ، فهذا وحده هو الذى يغير الموازين ، وينتصر لقضية الحق الفلسطينى عالميا ، سواء عند الشعوب أو لدى الحكومات ، وبما فيها ـ بالطبع ـ شعوب وحكومات العالم العربى والإسلامى أولا ، صحيح أن طريق المقاومة مفروش بالتضحيات والآلام وسيل الدماء ، ولكن ما من طريق آخر غير دفع "ضرائب التحرير" ، عرفته تجارب الشعوب تحت الاحتلال ، وتجربة الشعب الفلسطينى نفسه ، الذى يتعرض من مئة عام لأقسى وأشرس أنواع الاحتلال الاستيطانى الإحلالى ، وتوالت ثورات الشعب الفلسطينى وانتفاضاته ، من ثورة 1936 إلى "طوفان الأقصى" ، وارتقى مئات الآلاف من الشهداء والأشلاء والجرحى ، وذهب للأسر مليون فلسطينى منذ عدوان 1967 ، ومن دون أن يثبت الطريق المعاكس لخط المقاومة مقدرته على إنجاز أى شئ مفيد ، وأمامنا تجربة الثلاثين سنة الأخيرة بعد عقد "اتفاق أوسلو" وتوابعه ، وقد كانت وعودها كلها سرابا ، انتهى إلى ما خبره ويعانيه الشعب الفلسطينى اليوم ، فلا عودة لأرض ولا لمقدسات ، بل استيطان إحلالى متوحش فى الضفة الغربية ، وتهويد غالب فى القدس ، وفى المسجد الأقصى ذاته ، ومن دون أن تنتهى مئات جولات المفاوضات المباشرة إلى شئ ، إلا إلى توقفها هى ذاتها ، وإمعان كيان الاحتلال فى التنكيل اليومى الوحشى بالشعب الفلسطينى ، وفرض كيان الاحتلال لحصص ذهاب الشعب الفلسطينى للصلاة فى المسجد الأقصى المبارك ، واستطراد السعى "الاستيطانى اليهودى" لهدم المسجد نفسه ، وإقامة الهيكل المزعوم فوق أنقاضه ، وقد يقال لك بالمقابل ، وما جدوى المقاومة المسلحة بالذات ؟ والجواب ظاهر أيضا فى تجربة الشعب الفلسطينى وجواره ، فالمقاومة المسلحة على مدى أكثر من عشرين سنة ، هى التى حررت الجنوب اللبنانى من دنس الاحتلال "الإسرائيلى" ، والمقاومة المسلحة فى انتفاضة الفلسطينيين الثانية التى بدأت أواخر سنة 2000، هى التى أجبرت العدو على الجلاء وترك "غزة" وتفكيك مستوطناتها عام 2005 ، وعودة "إسرائيل" اليوم لاحتلال وإبادة "غزة" وأهلها ، لن يكون لها من نتيجة ، سوى عودة "غزة" إلى طبيعتها الدائمة كقلعة للمقاومة المسلحة ، هزمت العدو من قبل ، وستهزمه مجددا فى الحال والاستقبال ، فقد كانت "أوسلو" وأخواتها استطرادا لفرية سادت زمنا ، ذهبت إلى افتراض أن السلام ـ أو الاستسلام ـ هو خيار العرب والفلسطينيين الاستراتيجى ، ثم ظهرت المقاومة من نوع مختلف ، التى تحدت مقولة السلام كخيار استراتيجى ، وردت الاعتبار إلى المقاومة كخيار استراتيجى ، وتوالت إنجازاتها الفعلية على الجبهة الفلسطينية وجوارها ، وأدارت حروبها طويلة النفس مع كيان الاحتلال ، وحرمته من تحقيق أى نصر فى النزال العسكرى المباشر ، وتسلحت أولا بنزعة الاستشهاد  ـ كأعلى قيمة إنسانية ـ ضد التكنولوجيا الحربية الفائقة لدى العدو ، ثم أضافت المقاومة مقدرة على صناعة سلاحها بذاتها ، وتطوير عقيدة قتالها التى لا تهزم ، وأفادها الحضور السكانى الفلسطينى الكثيف فوق الأرض المقدسة ، وقدمت "بروفة" عبقرية لإمكان زوال "إسرائيل" ذاتها فى هجوم السابع من أكتوبر 2023 ، وأحيت القضية الفلسطينية عالميا من موات ورقاد طويل ، وأعادت النجوم لمداراتها الأصلية ، وأثبتت أنه لا احتلال يدوم إلى الأبد ، مادام الشعب الرافض للاحتلال يقاوم ، ويستنزف المحتلين على الدوام ، وإلى أن تزول الغمة ، وتكون الكلمة الفصل بإذن الله .

[email protected]