«النمل الأبيض» 2 قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

الدكتور طارق الزيات
الدكتور طارق الزيات

الحلقة الثانية

سوف أُنكل به وأجعله ضيفاً دائماً في المحاكم، بإذن الله سوف أحبسه، ها هي القائمة، كانت أمي تقول ... هذا الكلام لخالي وقد أحضرت عدة وريقات أصفرت بفعل الزمن وجلست بجواره وهي تقول له، انظر هنا هذا الأنتريه غير موجود لأنه غيره بآخر منذ ثلاث سنوات، عندما يعرض على الأثاث سوف أرفضه لأنه لا يطابق الوصف الوارد هنا في القائمة، وهذه الثلاجة أيضاً لقد اشترى بدلاً منها بعد أن تعطلت، لن يستطيع أن يحضر نفس الموديل لأنه لم يعد موجوداً في السوق هذا فضلاً عن أجهزة أخرى.

لم يقصر خالي فقد قال لها أن تطالبه بالذهب، فضحكت ضحكة غريبة قائلة إن الأمر لم يفت عليها، لم أعرف ما هي القائمة ولماذا سيحبس أبي بسبب الثلاجة والأنتريه والذهب، كان حديثاً مدخراً كي أعيه في المستقبل، ورغم إن أبي خلال غيابه قد أرسل مصروف البيت المعتاد، لكن أمي قررت أن تطالبه بمبلغ النفقة، أحاديث تكفلت بكبري قبل الآوان وفتحت عيني عن وجه مظلم للحياة، كان أكثر ما أحزنني أن أبي لم يأت يوماً لزيارتنا، لقد كان صديقي ودائماً بيني وبينه حديث، هل حقاً نسينا أنا وأختي، هل حقاً أصبحنا في المنتصف ما بينه وبين أمي تصيبنا شظايا معركتهما.

تراكمت المخاوف يوماً بعد يوم، وكانت شقيقتي ملتصقة بي طوال الوقت، في الليل تبكي حنيناً لأبي وتسألني أسئلة صعبة لن أرددها فلا أريد أن أبكي ولا أريد أن يبكي معي أحد، في العاشرة من عمري كان علي أن أحتضنها و أطمئنها و أنا الذي يرتعد خوفاً.

بعد أسبوع من رحيل أبي استلمت أمي ورقة من شخص طرق باب بيتنا، عرفت فيما بعد أنه المحضر، لا أعرف لماذا فوجئت أمي بمضمون الورقة، لقد سبق أن قال لها أنها طالق، وها هو يوثق يمينه ويعلنها بالطلاق، أخذت الورقة منه ووقعت بالاستلام وصوتها يعلو بالدعاء عليه ألا يربح دنيا ولا آخرة، وبالطبع كانت خالتي أول من تلقت الأخبار.

من هذه اللحظة بدأت رحلة جديدة، لقد رفعت أمي قضايا كثيرة رغم إن أبي لم ينازعها في حضانتنا ولا نفقتنا ولا حتى حقوقها من مؤخر وتفاصيل كثيرة لم أكن أعيها في حينها، يبدو أن أبي كان قد حسم أمره في التخلص من علاقته بها، لكن ألم تشتاق إلينا يا أبي كما نشتاق إليك، ألم تفكر فينا مرة أو نمر على خاطرك، ألم يكن لديك فضول لتعرف كيف أصبح حالنا أو كيف نشعر، أم أنك في خضم تخلصك من علاقتك بأمي قررت أن تتخلص منا أيضاً، ما أصعب أن يشعر طفل أنه لا قيمة له لدى أبويه، لا يشعر أنه عزيز عليهما، أن يشعر أنه ليس محل اهتمامهما، لقد شعرت حينها أنني لا شئ، لا أساوي شيئاً، كان شعوراً بائساً حقاً، ربما لم تشعر به شقيقتي لأنني كنت احتضنها و أهتم بها بينما لم أجد من يمنحني هذا الشعور، فقط هذا الشعور الذي يجعل لك قيمة بينك و بين نفسك.

مضت ثلاثة أشهر، دارت عجلة النزاعات القضائية، لا جديد يسعد النفس، الحقيقة أن كل جديد كان يحمل هماً يضاف إلى همومي، حتى طرق عمي باب بيتنا مساء أحد الأيام، جاء كي يطلب من أمي أن تسمح لأبي أن يرانا، و رغم رفض أمي القاطع و معاملتها القاسية لعمي و انتهاء الزيارة بلا نتيجة إلا إنني استرديت بعض الأمل، ها أنت تأتي متأخراً جداً، أنت الذي كنت دائماً تقول لي إننا أصدقاء و إنني و شقيقتي أغلى ما لديك، استلزمك الأمر ثلاثة أشهر كي تشتاق إلينا، و لكن هل ابن العاشرة يستطيع أن يلوم أو يحاسب، لقد أصبحت و شقيقتي أسرى هذا النزاع الذي حل بالبيت بينما أنتما تمارسان حياتكما كما يحلو لكما.

أصبح المحضر شخصاً مألوفاً في بيتنا، فكما رفعت أمي حزمة الدعاوى  القضائية ضد أبي، رفع هو أيضاً قضية رؤية، خرجت أمي فور تسلمها الإعلان لمقابلة المحامي و هي تردد كلمات كثيرة و عبارات مريرة تبينت منها كلمة على جثتي، كلمة لم أفهمها و شغلت بالي حتى سألت مدرستي عنها ففهمتني معناها ثم قالت لي أنني يجب أن أقابل الإخصائية الإجتماعية لأن حالي يسوء يوماً عن الآخر، كما أخبرتني أنها ستتصل بولي أمري حتى يحضر، الحق إنني تمنيت أن يحضر.

في مكتب الإخصائية دار الحديث و استطاعت أن تسحب مني الكلمات لكن لأول مرة أجد نفسي أتلعثم و لا أستطيع أن أجمع عبارة واحدة حتى شعرت أنني قد قاربت على التشنج، فقامت من فورها و أخذتني كي أغسل وجهي و أحضرت لي بعض العصير و قالت لي أن أقضي اليوم معها و رفضت أن أدخل الفصل و أنا في حالتي هذه ثم قالت لي بهدوء أنها تريد أن تفعل شيئاً يسعدني فقلت لها يا ليت أن تصر على حضور أبي، لم أكن أدري أن كلمتي هذه سوف تبكيها.

 

الحلقة الثالثة

في اليوم التالي، طلبت مدرستي أن لا أنزل إلى فناء المدرسة في وقت الفسحة و استبقتني معها، كانت مدرستي في عمر أمي تقريباً، أخذتني من يدي و سارت معي في ممرات الفصول، حدثتني كثيراً عن أن أمور كهذه تحدث في الحياة، و أنني في العاشرة من عمري و قالت و هي تربت على كتفي أنني رجل صغير، و أنها تفهم مدى ألمي و أن الألم سيزول بالتدريج و إنني سأجد طريقي في الحياة، كانت تحدثني كما لو كانت تحدث رجلاً كبيراً واعياً، كان حديثاً ممزوجاً بالاحترام بقدر ما كان فيه من العاطفة، لم أعرف لماذا تهتم بي لهذا الحد، شعرت  أن هناك أمومة متدفقة مع كلماتها، حتى أنها طلبت مني أن أراجعها في أية مشكلة أواجهها سواء في المدرسة أو البيت، شعرت معها أن الحياة ليست خاوية تماماً، كم كان  لمدرستي من أثر كبير في حياتي.

في منتصف اليوم، طلبت الأخصائية الاجتماعية منها أن تسمح لي بالخروج من الحصة، تبادلا سوياً نظرات تدل على إنها تعرف السبب، خرجت مع الأخصائية و سارت بجانبي و هي تسأليني عن حالي في هذا اليوم، فقلت لها إنني بخير، قالت لدي مفاجأة لك، هيا ادخل مكتبي و سوف ألحق بك ، دخلت فوجدت أبي جالس أمامي، نهض و أحتضنني، لم أجد كلمة واحدة أقولها، كان يلثمني و يسألني عن حالي و حال شقيقتي و أنا صامت، ربما فرحة رؤيته عقدت لساني، ربما عتابي له لجمني عن الكلام، ربما حزني لتجاهله لنا هو الذي جثم على صدري، لم أعرف ما السبب و لكن نظراتي له لخصت كل ما في نفسي، فما كان منه إلا أن أعتذر لي.

لم يتطرق أبي إلى سبب المشاكل التي بينه و بين أمي، و لا تعجبوا إن قلت لكم إنني حتى هذا اليوم لم أعرف أبداً سر النفور المستحكم بينهما، عندما كبرت أخذتني الظنون إلى أبعد مدي حتى إنني ظننت أن أيهما قد خان الآخر، لا أريد لأن أكذب عليكم، كبرت و فهمت أن الطبيعة البشرية تميل للإفصاح، و أن من الطبيعي و لو كان ليس من الإنصاف أن يلقي أياً منهما المشكلة على عاتق الطرف الآخر، و لهذا لم يجب أبي علي عندما سألته و أنا ناظر إلى الأرض عما إذا كان سيعود للبيت أم لا، رفع رأسي برفق و قال لي لا تنظر إلى الأرض، أنظر إلي يا صديقي عندما تتحدث إلي، كانت كلمة صديقي كمسرب لدموعي فاحتضنته و سألته هامساً حقاً صديقك، دفعني برفق و قال لي معاتباً كيف تشك في هذا الأمر، وعدني أن الأمور ستكون على ما يرام و أن علي أن أصبرلأنه عليه أن يدبر مبلغاً من المال ليسدد التزاماته بسبب الطلاق، كانت هذه العبارة كفيلة لأعرف أنه لن يعود.

دخلت الإخصائية و انفردت بأبي جانباً و تحدثا بصوت خفيض، و بدى عليها الرضا، و حان وقت الوداع، ها هو يخطو بهدوء خارجاً بعد وعد بلقاء، في كل خطوة كان يتضائل حتى اختفى.

أخذ أبي حكماً بالرؤية ،كما أخذت أمي حكماً بالنفقة و المؤخر و أشياء أخرى لا أعرفها، و بعد أن رفضت إستلام محتويات القائمة أكثر من مرة حتى انتهى الأمر بعد عناء طويل و بعد أن اشترى أبي أشياء مطابقة، و بعد أن أثبت أن الذهب معها و أشياء أخرى كلها مسيئة جداً، مسيئة لدرجة أنني أحسست أني أقل من أقراني الذين يحظون بأسر هادئة مستقرة.

في يوم الرؤية عرفت ما هو اللدد في الخصومة، عرفت كيف ينتهي بك الحال في نادي أو مركز شباب حتى يرى الأب أبنه، عرفت ماذا يعني التحكم و التعنت، ذهبت أنا و شقيقتي مع خالي إلى مركز شباب قريب، رفضت أمي أن نذهب إلى النادي و قالت أنه بعيد على خالي، حضر أبي و أقبل كي يعانقني أنا و شقيقتي، أزاحه خالي و قال له أنها رؤية فقط، كاد أن يحدث عراك و لكني أخذت بيد شقيقتي و أمسكنا في أبي، توعدنا خالي بالعقاب عندما نعود إلى المنزل فهدده أبي بإبلاغ الشرطة عنه و زجه في السجن لو لمس أياً منا، تراجع خالي خوفاً، و قال لي أبي أن أبلغ إدارة المدرسة لو مسني خالي أو مس شقيقتي، من يستطيع أن يدرك كل المشاعر المتضاربة داخلي، هذا الرجل تركنا و الآن يحمينا و يدافع عنا، هذا الرجل يحبنا و لكنه يتركنا فريسة لغيره، كيف اجتمعت المتناقضات في نفس إنسان واحد، هذا سؤال لازال يتردد في رأسي حتى الآن.

لست في حاجة أن أخبركم بما فعلته أمي من تعنيف لأننا خالفنا خالي، و لم يسلم الأمر من تعنيفه لنا و لكنه لم يجروء على المساس بنا خوفاً من أبي الذي بدا جاداً في تهديده... هكذا أصبح ما كان بالأمس القريب شيئاً عادياً، بات اليوم مشكلة معقدة لدي جميع الأطراف، و لكنها لم تكن أكثر تعقيداً من تبدل نفوس الجميع، و بالطبع للأسوء

يتبع