..فى عالم السياسة هناك مدارس متعددة ومتنوعة لكن تغلب على كل هذه المدارس فرضية واحدة تسعى إلى تحقيقها وهى كسب المصلحة من وراء الحركة السياسية.
تحقيق المصلحة قد يكون معتدلا بالنسبة للشخصيات التى تقود القرار السياسى فى بلادها داخليًا وخارجيًا أو يصل تحقيق المصلحة إلى أقصى درجات البرجماتية وتصبح القاعدة والشعار الذى يرفعه هؤلاء البرجماتيون أن أصدقاء الأمس هم أعداء اليوم والعكس صحيح.
لعل أكثر مايمثل هذه المدرسة البرجماتية فى عالم السياسة وبشكل صارخ هو الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فمنذ وصوله إلى الحكم عام 2002 كرئيس للوزراء ثم رئيسا للجمهورية بعد ذلك وهوابن مخلص لمدرسة البرجماتية السياسية فلم يعرف للرئيس أردوغان أصدقاء أو أعداء بل فقط مصالح يريد تحقيقها سواء داخليًا أوخارجيًا.
ففى كثير من الأحيان كان يلتقى أصدقاء اليوم بالأحضان وفى الغد يحولهم إلى أعداء ويوجه لهم الخطابات النارية من وسط أنصاره بحزب العدالة والتنمية فى ساحات المدن التركية، لم تقتصر تطبيقات برجماتية الرئيس أردوغان على علاقاته بسياسى الداخل التركى بل ظهرت فى علاقات تركيا بالعالم منذ توليه الحكم.
ففى لحظة يصل العداء التركى الروسى إلى حافة الحرب بإسقاط طائرة مقاتلة روسية وبعدها يتحول إلى حليف مخلص ويحصل على أحدث الصواريخ من موسكو وفى نفس الوقت تصل المسيرات التركية إلى أوكرانيا.
يشن حملات الهجوم على الولايات المتحدة وهو عضو فى حلف الناتو الذى تقوده واشنطن وتستشعر بأن تركيا أردوغان فى أى لحظة ستعلن خروجها من الحلف ثم قبل أيام قليلة يحصل على أكبر صفقة طائرات إف 16 فى تاريخ تركيا بقيمة 23 مليار دولار.
تطلق سياسة أردوغان تعاطفًا غير مسبوق تجاه حال اللاجئين السوريين مع ذرف الكثير من الدموع وترتفع شعارات" تركيا بيت كل سورى قادم إليها" لكن البرجماتية لها رأى آخر، تحول اللاجئون إلى سلاح ابتزاز فى وجه أوروبا إما تدفعوا مليارات اليوروهات أو نتركهم ليعبروا إليكم والآن بعد تحالفه مع القوميين الأتراك أطلق يدهم فى مطاردة اللاجئين السوريين فقد أصبحوا شخصيات غير مرغوب فيها بمعنى آخر انتهت المصلحة.
أما علاقات تركيا أردوغان بإسرائيل فهى دراما برجماتية من طراز فريد فمن المشهد الاستعراضى الشهير لأردوغان منسحبًا من مؤتمر دافوس احتجاجًا على الرئيس الإسرائيلى وقتها شيمون بيريز فى العام 2009 إلى انكشاف الحقيقة بعد 12 عامًا على يد وزير خارجتيه السابق أحمد داود أوغلو.
كالعادة كان أوغلو من أصدقاء الأمس وأصبح من أعداء اليوم فأردوغان وهو يغادر القاعة طلب من أوغلو سرعة الاعتذار لبيريز بالنيابة عنه حتى لا تؤثر حركته الاستعراضية على العلاقات الاستراتيجية بين تركيا وإسرائيل، ولا داعى لتأكيدات أوغلو على طبيعة الاستعراضية التى تخدم برجماتية الرئيس أردوغان فالمنسحب احتجاجًا على بيريز وموجه الخطب النارية لإسرائيل فى ساحات اسطنبول أمام مناصريه هو نفسه من أعد استقبالا مهيبًا فى أنقرة للرئيس الإسرائيلى الحالى اسحاق هرتسوج.
طوال العشر سنوات الماضية ظلت ألاعيب الاستعراضية وبرجماتية الرئيس أردوغان موجهة إلى مصر وتحولت ساحات اسطنبول وأنقرة وأزمير وغيرها من المدن التركية إلى مسرح يقدم عليه هذا "الشو" الذى يمزج بين السياسة والخطب النارية والمظلوميات وأخيرًا ينتهى بالغناء والأناشيد وسط تهليل أنصاره من حزب العدالة والتنمية وحلفائهم من جماعة الإخوان.
واجهت برجماتية الرئيس أردوغان الحقيقة بعد هذه العشرية الاستعراضية وعاد إلى قاعدته الأساسية وهى المصالح، اكتشف أن مصر الـ 30 من يونيو هى الحقيقة الثابتة وأن الاستعراضات فى ساحات اسطنبول وأنقرة لن تؤدى إلى تغيير الموقف الوطنى المصرى الثابت، استقبلته مصر بحفاوة مترفعة عن التاريخ الاستعراضى السابق.
وسط الزيارة الرسمية إلى القاهرة التى انتهت قبل أيام أبى الرئيس أردوغان إلا أن يقدم عرضًا من نوع آخر، عرض يقترب من اللغز وهو زيارته لضريح الإمام الشافعى لدرجة أن أغلب وسائل الإعلام المصرية والدولية حملت عناوين أخبار شبه متطابقة ما سر زيارة الرئيس أردوغان إلى ضريح الإمام الشافعى؟ وتعددت التفسيرات من أن سبب الزيارة هى متابعة الترميمات للمسجد التى أسهمت فيها تركيا فى العام 2012 ، وهناك مشروع عالمى للتقريب بين المذاهب، وكان أغرب تفسير أن الرئيس التركى ينتمى للمذهب الشافعى وهو على عكس الحقيقة فالرئيس أردوغان والدولة التركية من أتباع المذهب الحنفى منذ نشوء الدولة العثمانية حتى الآن وهى تنتمى للحنفية الماتريدية نسبة إلى أبى منصور الماتريدى أحد أئمة المذهب الحنفى حيث تعتبر أكثر المذاهب انفتاحا.
هذا الانتماء يعود إلى أسباب تتعلق بشرعية السلطة فى الدولة العثمانية لحظة التأسيس أو اكتساب مزيد من النفوذ وقت الضعف فمن التأسيس إلى النفوذ سعت الدولة العثمانية عن طريق سياسيها والفقهاء المنتمين لها إلى تفسيرات حول المذهب الحنفى تؤكد أن الخلافة تجوز للإمام الصالح ولايشترط أن يكون عربيا من قريش، والحقيقة أن المذاهب الأربعة تتمسك بهذا الشرط لكن للسياسة دائمًا رأى آخر وبعد تأسيس الجمهورية على يد كمال أتاتورك تمسكت تركيا بنفس المذهب بواقع هذا الانفتاح حسب رؤية السياسيين قبل الفقهاء بعد القطيعة مع تراث " الخلافة " العثمانية.
نعود للبحث عن إجابة للسؤال حول سر الزيارة لضريح الإمام هنا لايمكن فصل تحركات صاحب الزيارة أو الرئيس أردوغان عن المدرسة السياسية البرجماتية التى ينتمى إليها فإذا كانت زيارته الرسمية إلى مصر قائمة على المصالح فزيارته إلى الإمام الشافعى تحمل رسائل تصالح إلى الداخل التركى وقد يصل صداها إلى جبال البوكونو فى ولاية بنسلفانيا الأمريكية حيث يقيم فتح الله جولن زعيم جماعة خدمة صديق الأمس للرئيس أردوغان والذى كان يطلق عليه الأستاذ والذى أصبح الآن عدو اليوم عقب صدامهما الشرس طوال عشر سنوات لكن بالطريقة البرجماتية للرئيس أردوغان فالأعداء يعودون أصدقاءً من جديد.
قبل متابعة الرسالة التى حملتها زيارة الضريح والتى قد تنقل جولن من خانة الأعداء إلى خانة الأصدقاء يجب متابعة التحركات السياسية للرئيس أردوغان فى الفترة الأخيرة ــ التى بالتأكيد تقودها برجماتيته المفضلة ــ فقد نجح فى تحويل مجلس الدول التركية إلى منظمة الدول التركية وهى الدول التى تتواجد فى آسيا الوسطى وتنتمى للقومية التركية وضم إليها أيضا شمال قبرص غير المعترف بها دوليًا ويتيح هذا التحالف لتركيا مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية بالغة حيث هى قلب هذا التجمع الذى يضم دولا تتمتع بثراء اقتصادى وأهمية جيوسياسية كبيرة بل يرفع هذا التجمع من نفوذ تركيا فى مواجهة الصراع الأمريكى الصينى الروسى للتواجد فى آسيا الوسطى الغنية بالموارد.
بعد مايقرب من عام ونصف من المفاوضات بين الولايات المتحدة وتركيا حول الحصول على موافقة تركيا لأجل دخول السويد إلى حلف الناتوــ قانون الحلف يلزم إجماع كافة الدول الأعضاء على دخول عضو جديد ــ وافقت تركيا بعد أن تخلت السويد عن استقبال عناصر كردية تعتبرها تركيا إرهابية وفى المقابل حصلت تركيا على الصفقة الأضحم فى تاريخها وهى طائرات اف 16 بقيمة 23 مليار دولار والأهم حالة من الانفتاح الكامل بين تركيا أردوغان وواشنطن حيث ينتظر أن يقوم أردوغان بزيارة إلى العاصمة الأمريكية تتوج هذا الانفتاح.
عاد أردوغان إلى سياسة صفر مشكلات مع الدول العربية وهى السياسة التى تقوم على المصالح والتعاون الاقتصادى بعيدًا عن عشرية الاستعراضات والخطب فى ساحات المدن التركية ثم انقلابه على حلفائه من جماعة الإخون.
هذا الانقلاب يعود فى الأساس إلى التحذيرات الشديدة التى حملتها إليه النخب التركية من أن عناصر هذه الجماعة الإرهابية بوجودها على الأراضى التركية أصبحت جاذبة وتشكل بؤرة تطرف قد يقضى على مفهوم وصورة الإسلام المنفتح الليبرالى التى تحاول تركيا أن تظهربه أمام العالم، والأخطر أن التحالفات التى أقامها أردوغان من خلال جماعة الإخوان الإرهابية مع تنظيمات إرهابية تتبعها جلبت على تركيا موجات شرسة من العنف والتطرف وأصبحت صورة تركيا أنها دولة راعية للإرهاب مما سيحمل تركيا ثمنًا اقتصاديًا فادحًا فى علاقاتها الأوروبية ولأول مرة يجد أردوغان نفسه فى مواجهة الدولة التركية العميقة التى ترى كارثية هذا التحالف وهذه الدولة هى التى دفعته سريعًا لإنهاء هذا التحالف الدموى وعشرية الاستعراضات ومد يد المصالحة إلى المنطقة العربية.
الأمر الآخر هو نهاية القوة الدافعة التى حصل عليها أردوغان فى عشريته الاستعراضية برحيل إدارة أوباما بأفكارها المعولمة الجنونية حول مايسمى بالربيع العربى والتى وجدتها برجماتية أردوغان فرصة ذهبية حسب تصوره ليصبح زعيم الربيع بالتحالف مع جماعة إرهابية ولكن برجماتيته لم تسعفه ليكتشف أنه يطارد ذهبًا زائفًا.
فى أكتوبر من العام الماضى دشن الرئيس أردوغان كنيسة للسريان الأرثوذكس وهى أول كنيسة يتم تشييدها منذ 100 عام فى تركيا داعيًا إلى التعايش فى سلام بين كافة طوائف وأعراق المجتمع التركى ويعتبرهذا تحولا أيضا فى سياسات أردوغان فقبل 4 سنوات فى ظل العشرية الاستعراضية وقع أردوغان مرسومًا بتحويل كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد بعد أن ظلت لعقود متحفًا وإغلاق كنيسة تاريخية أخرى وخرج أنصاره من التحالف الإخوانى الكارثى يهللون لخطوته الجبارة وسط استياء العالم من هذه الخطوة غير المفهومة ولكنها البرجماتية والاستعراضبية من أجل زعامة وشعبية زائفة.
ما علاقة تحركات الرئيس أردوغان الأخيرة بصديقه وحليفه القديم فتح الله جولن وعدوه اليوم ..إلى حين؟ ، الأمر ببساطة أن هذه رؤية فتح الله جولن لتركيا والسياسة التى كان يطبقها أردوغان منذ توليه الحكم حتى اصطدامهما الأول بعد حادث السفينة مرمرة فى 2010 التى حملت أنصار أردوغان والإخوان ومهاجمة إسرائيل لها بدعوى فك الحصار عن غزة.
الحقيقة أن هذا الفعل كان بداية تأسيس حالة العشرية الاستعراضية وقبل أشهر قليلة من هبوب ما يسمى بالربيع العربى ومطاردة أفكار إدارة أوباما الجنونية ثم تحالفه الكامل مع الإخوان وهاجم جولن مافعله أردوغان واصفًا إياه بالفعل الأحمق دون فائدة وأنه يجب ألا تتورط تركيا فى هذه الحماقات وكان الصدام الأكبر عندما اتهم أردوغان جولن وجماعته بأنهم وراء محاولة انقلاب. 2016
فأثناء تحالف جولن / أردوغان أسست رؤية جولن لحركة أردوغان السياسية وكانت رؤية الحليف القديم جولن قائمة على عدة محاور أولها أن امتداد تركيا ليس فى المنطقة العربية لكن فى فضاء آسيا الوسطى التركى ولذلك أسست جماعة خدمة التى يتزعمها نفوذ قوى فى هذه الدول من خلال المراكز التعليمية والعمل على ضم الكثيرين إلى جماعته وأن اتصال تركيا بالمنطقة العربية يقوم على مصالح فقط.
المحور الثانى صاغ جولن من خلال جماعته مفهومًا يدور حول إسلام صوفى منفتح وقائم على القومية التركية التى يتحرك فى دوائرها وليس إسلامًا أمميًا أو جهاديًا يجنح إلى العنف كما تريده الفاشية الإخوانية وفروعها من القاعدة إلى داعش بل كان تحذير جولن الدائم أن دخول تركيا إلى المنطقة العربية للبحث عن نفوذ من خلال هذه الجماعات سيجلب الكوارث على تركيا وهو ماحدث بالفعل.
المحور الثالث أن تمسك تركيا بتعاليم الدين الإسلامى لايعنى الانغلاق بل يجب أن تنفتح بكامل طاقتها على أوروبا والولايات المتحدة وتدخل معهما فى علاقات على كافة المستويات من أجل تحقيق نهضة حضارية حقيقية تنتج أجيالا من المسلمين الأقوياء همهم الأول تحصيل العلم وبناء الحضارة، وأن الأتراك المقيمين فى الغرب عليهم أيضًا الاندماج فى مجتمعاتهم مع الحفاظ على إسلامهم لذلك كان لجولن وجماعته حضورًا ضخمًا فى أووبا والولايات المتحدة حيث يقيم.
رغم أن تحركات أردوغان الأخيرة عادت إلى هذه الرؤية ونجحت فى تطبيق جزء منها إلا أن عودة صاحب الرؤية أو فتح الله جولن إلى التحالف القديم سيسرع من تطبيقها والأهم النفوذ القوى الذى يمتلكه جولن فى كل هذه الدوائر من آسيا الوسطى إلى الغرب أو فى الداخل التركى القلق من تدمير صورة تركيا الدولة الإسلامية المنفتحة الليبرالية بسسب التحالف الكارثى مع الفاشية الإخوانية.
أما ارتباط الزيارة أو الرسالة من ضريح الإمام الشافعى بجولن لأن جولن يعتبر نفسه امتدادًا وعلى طريق استاذه الروحى المتصوف بديع الزمان سعيد النورسى الشافعى الكردى ورغم أن جولن ينتمى للمذهب الحنفى مثل أردوغان إلا أنه أكثر انفتاحًا فى موضوع المذهبية ولا يؤثر الانتماء المذهبى فى الانتماء لجماعة جولن وأيضا فإن المناطق الكردية فى أغلبها شافعية بالإضافة إلى أنها مكونًا من ضمن مكونات الجماعة والتى قد يريد أردوغان أن يكون فى حالة تصالح مع جماعة جولن وزعيمها والكرد بنفس الوقت فى ظل توجهاته الجديدة.
قد تؤدى هذه البادرة التى خرجت من أرض مصر إلى عودة التواصل بين أصدقاء الأمس أعداء اليوم.