«المنوفية» مقامة للكاتب حامد أبو المجد

كاتب حامد أبو المجد
كاتب حامد أبو المجد

 

 

حدثنا صابر مقهور المصري: أنه في السنين العشر الأوائل من الألفية الثانية درات عليه الدوائر فقد مرت به ضائقة ، وكانت حالقة ، جردته من جميع أمواله ، وأجلسته مدحورا بين عياله ، بعدما وقع ضحية نصب ممرضة ، لها حضور في كل الأفئدة ، فقد تنازع هـواها شقيق زوجته ولهج بمدحها لسان قرينته ، فصارت لهم أختا غير شقيقة ، بما قدمت لهم من كلمات رقيـقة ،  وخـدمات بسيطـة في كل ما يحسبون أنه كـارثة وضيقـة ، فتحـدثـوا معها في أسرارهم ، وما بينهن وبين أزواجهم ، فعـرضت مساعدة صابر المقهـور ، بتوفير عقد عمل له لدي مريـض تعرفه مشهور ، يعالج من ضعف وفتور ، ويجمع عمالة من بلدة أبي مشهور بالمنوفية للعمل بالدول العربية ، يتمنى خدمتها بعدما تفانت في تمريضه وهو لـديها ، وقد ترك لها هاتفه إن شاءت أن تحادثه في أمر بعلها وولديها.

كانت الممرضة تدعى صابرين ، بلغت من العـمر الثامنة والعــشرين ، هيفاء شقــراء عسلية العـينين ، تحرسهما أهـداب مـرسلة وحاجبان كالهلالـين ، يفصلهما أنـف يفــصل بين خـــدين حمراوين ، وثغر متقد إذا انفرج رأيت اصطفاف اللؤلؤ في صفـين متساويين ، إذا تحدثت تكره صمتها ، و إذا صمتت تشتاق حديــثها، هي كالروح يحــيا الجسد بولوجها ، ويفنى بخروجها ، لكنها من النساء العوائل ، ذوات الحظ المائل ، فلم تنل شيئا من التـعليم ، ولم يكن لها حصن من ديـن فتزوجت على رغبة أمها ، ممن لــم يقدر أنوثتها وجمالها ، فجعـلها متاعا وانتظر من عـملها اتساعا ، واستغنى عن قوامته وانتزعت منه رجولته ، ولم يبق له عندها إلا اسمه في بطاقتها وبقاؤه مع ولديه في غرفتها .

 ولما رأت ما تنال من غيره من اهتمام ورعاية، رغبت عن كل رغبة فـيه وعناية، ولم تـشـأ أن يطلقها فتتقـيد حـريتها بالطلاق، بل حـدثت مريضها الثري أن يرسله بعـيدا عنها في الأفاق، فتضرب تلاثة عصافـير بحجر: تخلصت ممن يسألها: من جاء؟ ومن حضر؟ وتستمتع بما وقع بها من أفرع الشجر، وتستدل ببعـلها على صدق العمل والتأشيرات والسفر؛ فيهرع إليها راغبو المغادرة، ويأوي إليها راغبو المغازلة.

وذات يوم أتت زوجتي فرحة للبيت، تحمل أكياسا بها دجاج وأرز وزيت، فسألها: ما تفعلين بهذا الطعام؟ وهل من حلال أم من حرام؟ فقالت: أتت به صابرين صاحبة أختي منار، من رجل كويتي ذي يسار؛ لأقوم بتوزيعه على الفقراء وأصحاب الأدواء، في منطقـتنا العشواء، التي يرسف أغلبها في التخلف والجهـل، ولا يتحرج السحت الرجل والكهـل، فلا راتبه يكـفيه ولا الشيب ينهـيه، ناهيك عن الأرامل المعــيلات اللاتي لهن العـذر في قبول الصـدقـات؛ لقلة المعاشات وزيادة حِملها من بنين وبنات، فالناس -بعد الخصصة - تنتظر أي معــونة، وبدون الانتخابات أيامهم بمؤونة. ونسيت أن أذكر لك: كلمت صابرين في شأنك، وحدثت الكويتي قي أمرك، وطلب سيرتك الذاتية، ليوفر لك عمل بدولة عربية.

فقلت لنفسي فكرة جيدة الاغتراب في الشباب ، وطلب الأرزاق بتنوع الأسباب ، وتحرك الخيال بما سوف اكتسبه من أموال ، وما سوف يـؤول إليه الحـال ، وشرعت في كتابة سيرتي الذاتية وما قمت به من أعمال إدارية وما لدي من مواهب شخصية ، تؤهلني للعمل عند أسرة ثرية ولم تمض أيام طوال ، حتى سمعت صوتا ناعما في الجوال ، يقول: أنا صابرين صاحبـة منار

فقلت : وأنا صابر على نار

فقالت: أبشرْ فـقد أحضرت لك عـقدا للتدريس لأحـد الأمراء، وسيكون لزوجي عقـدا لحراسة دور للمسنين الفقراء، فأعد نفسك للسفــر مع الدراسة، ودرب لسانـك على اللباقة والكياسة، وقبل شهر من السفر تدفع ثمن التأشيرة، وعلى الكفيل مسكنك والميرة

فقـلت: وما ثمن التأشيرة؟ فقالت: لكل عـمل تسعـيرة، تلاثين ألـف للتعـليم وعشريـن ألف للحـرف أو التخديم، فقلت لها: ليس معي منها سوى عشرة، ولم يـبق على سبتمبر سـوى عشرة، فأنَّى لي بتدبيـر المال ؟، وأنتِ تعـلمين بالحال؟

فقالت: دِير حـالك، ودير أمرك مع عيالك، ويمكن لحـماتك أن تساعدك، أو أحد أصدقائك يقـرضـك، فسوف تحصل عليهم من راتب أول شهر، غير ما تناله من الدروس والوجـوه الزهر. واستأذنت في إنهاء الكلام لتدبر مال عقد بعلها الهمام .

فجلست أفكر في الأمر بصوت مرتفع، والقلب يضطرب بين الرجاء والطمع، فجاءت قرينتي تطيح بحيرتي، فقد حدثتها أمها بتدبير المال، ويُرد إليها بعد صلاح الأحوال، وهما على ثقة في ذلك الثري المتدين، وفي تلك اللعوب ذات الحديث العذب والسلوك المتزيّن .

طلبت من زوجتي التثبت من صابرين أمرها ، ومعرفة أهلها ومقرها ، فشككت فيَّ ومدحتها ، ومن كل سوء أبرأتها ، وكالت لي الاتهامات ، فليس كل الناس ذوي التواءات ، وهل ستضحك علي نفسها ، وسوف يسافر معي زوجها ، والرجل يرد جميلها ، ويعرف لها معه فضلها ، وقد أحضر شنط رمضان لتوزيعها على كل محتاج غلبان ، لا تسئ الظن بإنسان يفعل الخير ويبذل الإحسان ، فكر فيما ستحتاجه في غربتك ، وكيف ستعد أكلتك ، واتق الله في مطعمك ونظرتك ، فمبتدأ الذنوب النظر ، ولا تعلم من أين يأتيك الخطر ، فلا قريب بجوارك ، ولن ينفع مع الغنم حوارك ، فسالم تسلم ، وهادن تغنم .

فنظرت إلى ثقتها في الكلام، وتفكيرها في مستقبل الأيام، فهدأت المخاوف إلا قليلا، فحكمها على الناس عليلا، شأنها شأن المصريات الطيبات، يضحك عليهن كل متلون القسمات، يبدي في اللسان حلاوة، وعليه سماحة كاذبة وطلاوة، تأسر العقول والقلوب، فلا ترى أية عيوب، فهم في نظرهن أطهار بلا ذنوب، فآثرت معرفة مكانها ومكان أهلها، تحسبا لأي يصدر منها أو من مريضها.  

ومرت الأيام بين التفكير والتدبير، وانقضى الهجير وهلْ أكتوبر مع أمشير، واتصلت بعدما استبد بي القلق، منتقيا الكلمات كذوي الملق، فإذا بصوت رخيم، لم يتجاوز الخمسين إلا إنه حكيم، يعرف ما يقول، ويعي ما يدور في العقول، فقال: لعلك تظنني نصابا، وأنني قد تعديت في تأشيرتك النصابا، أتعلم أنك ستعلم أبناء أمير الكويت، ومسكنك ومأكلك على أل البيت، وما ستناله من رواتب وحوافز، سيتعدى بك وأهلك كل المقافز.

 

فقلت: لكن المواعيد متأخرة، ووعودك وكلماتك متنافرة، فلم أنل منك غير الوعود، والفكر يتآكل بين الإهدار والصدود، فما أنا بمقيم بمصر، ولا من السفر على إصر. فرد قائلا: سأرسل لك صورة من العقد والتأشيرة، ولكن عليك جمع أفراد من الأهل والجيرة، لاستكمال العدد المطلوب، من الحرف والمهن الجوب، فتلاعبت بعقلي الأماني، وحدثت القاصي والداني، وما هي إلا أيام معدودات، حتى انسالت عندي الطلبات من راغبي السفر والراغبات، فجمعت منهم ما بين ثمان من الألاف وتسعة، وكانوا بعد الثلاثين بتسعة، وحولت المبالغ باسمه، ولم أعلم بوصفه ولا رسمه، فقد كانت ثقتي بأهل زوجتي أوثق من ثقتي بنفسي وأرومتي، وتلك كانت آفتي، وأحد أسباب نكبتي وأزمتي.

ومرت الأيام وارتدت السواد، بعدما اختفت صابرين ومريضها والأسياد، فتنصل مني الأخوة والأصهار، ورموا عقلي بكل عوار، واستهزأ بي الأغبياء من الرفقاء، وتخلى عني الأرحام قبل الأصدقاء، وأحسست بأني أهوى في جب سحيق، لا أدري أي شق سيقودني ذا الطريق وارتفعت الأصوات واهتزت أبوابي من شدة الطَّرقات ، فوجدتني أجلس القرفصاء في شبر بزنزانة بين السجناء .  

عالم آخـر لم اتخيل نزولي أرضه ، ولم أقــو على سننه ولا فرضه ، فبعـد أن كنت وَثُرا على وِثْر بقناعتي صرت وَثْرا من الجلد بكلدتي ، يتحكم بجلستي ومنامي من يجهـل علمي ومقامي فنزل الدمع على خدي، لهوان مواضع أنفي وجسدي، فتزاحمت أنفي روائح الأبوال، وعبثت اياد بالجيوب والأوصال ، ورتعت الحشرات فجالت بين يمين وشمال ، ولم أقو على الاعتراض أو إظهار الامتعاض ، مخافة حكمدار العـنبر ، المهاب الجانب والمنظر ، فالكل يعـمل حسابه ومنهم من يعد له طعامه ويغسل له ثيابه ، ومن الحراس من يحضرون له القات والمخدرات التي تقوم بالزنزانة مقام العملات ، ونجاني من ظنوني نداء الحراس لي ليواجهوني ، إذ تم القبض على الممرضة ، وجلست في الطرقة أمام مكتب رئيس المباحث مقيدة ، فلما رأتني صاحت : هذا الذي استغل الضحايا ، ونال العملات والمزايا ، فقلت لها : ألم تقص على مسامعي كرم المريض ، وسطرت فيه النثر والقريض ، ألم تأخذي منى من الآلاف ثلاثين  ودبرت عشرة لزوجك اللعين ، فأشار إليَّ رئيس المباحث بالخروج ، وقال لها بالأمر فروج ، فهل يعرف الدكتور الحج علي المزعوم ، فقالت: - دون وعي – ما لمعرفته له لزوم ، فكتب محضرا بصحة التحريات ، وأن ليس بين المتهم وبين النصاب أي مكالمات ، وأنها المسئولة عما جرى من تحويلات ، فقلت له ، وأين الأموال ؟ فقال هذه من اختصاص مباحث الأموال ، لكني أخرجتك من جريمة النصب والاحتيال .

وخرجت من المحكمة براءة ، وقد أسأت لنفسي بثقتي أي إساءة ، وصرت في نظر الناس نصابا ، ولم أجد لسد الأموال بابا ، فأجرت شقتي خمس سنوات ، وعملت جمعيات ووزعت الجنيهات ، وسافرت للمملكة لسد ما بقى من تعاقدات ، وساومني أخوتي على ما لي من ميراث وعقارات ، واختفت صابرين خلف الخمارات ، بعـدما ساعدها أصحاب الثروات ، واشترى لها الحج علي شقة في القاهرة بأحد البنايات ، ملجأ لصوص الأقوات والعملات ووجدتني أسير منشدا :

وجـدت في القـناعة  حـياتي وأربـاحي

ماذا جـنيــت من طـمعي  غـير أتراحي

لم أسرق ولم أتمـن إلا وقـتا لأفــراحي

وأحـيا في الــدنيا بيسر و إنشــــراحي

ولكــن الدنيا تدميني بحـزن و جـــراح

وتهــدي سواي من الخلق بــــكل فلاح

فـمالي وأرزاق الخلق فالرزق بأقــداح

فما لك سيأتيك بقـدرة العــليم الفـــتاح

ألـم يرزق الطير بكل أرض كل صـباح

وما ليس لك فلن تـناله بجـنةٍ وأشباح

وطرأ لي خاطر - وأنا سائر تتنازعني الوساس والمخاطر ، وكيف أرد الأموال إلى اًصحابها ، وسمعتك التي أضر بها - هو كيف لا انتبه إلى أن الأموال التي نالها مني  ، قد أودعتها صابرين في حساب ببنك وطني ، والبنوك الوطنية لا يفتح بها حسابات لأشخاص أجنبية ، إلا إذا حصلت على الجنسية ، لابد أن أحدا من الخصوم الحقودين  دبر لي هذا المأزق اللعين ، ليتخلص مني بفضيحة وقضية ، تمس الشرف وتكون مدوية ، أو أحد المقربين أسرّ بمعلوماتي لأحد المستفيدين ، مقابل خدمة أو قرشين ، فالمصالح تتصالح عند الفقراء ، والأخوة تتقاتل على الميراث قبل العزاء .

ومن ثم أسرعت لصورالعقود وإيصالات الإيداع  وذهبت لموظف البنك عله ينصاع ، وطلبت منه صورة بطاقة صاحب الحساب ، فأبى دون معرفة الأسباب ، فقصصت عليه الموضوع ، وأظهرت له الخضوع والدموع ، فقال : سأظهر لك صورة البطاقة على شاشة الحاسب ، فانظر لها وحذار من الكاميرات التي تراقب ،  فأخذ البيانات من الإيصال وأدخلها على الحاسب في الحال ، فظهرت صورة الشاطر الموصلي ، بجوار اسم على محمد أحمد الزنفلي ، الجيزة  5 ش بهي الدين بركات ، فأدركت انه عرف مني المعلومات ، واستخدمها واهما إياي أنه على صلة برجال التحريات ، لأصدق وأنفذ كل ما يأمر به دون مناقشات ، ولكن كيف غيَّر نبرات صوته ، ولم أدركه في المرة التي فيها حدثته ؟

فعبثا حاولت ، فضحكت من نفسي حتى بكيت ، ثم قمت فتوضأت فصليت ، ودعوت الله ألا يتوفني حتى يمكنني منه وختمت ، ثم غلبني النعاس فنمت .