«النمل الأبيض»1 قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

الدكتور طارق الزيات
الدكتور طارق الزيات

كان زلزالًا مدوياً جرف معه كل شعور بالأمان كما لو كانت جدران المنزل قد إنهارت وكشفت عن خلاء لا نهاية له، في وسط الصخب والضجيج الذي أحاط بي من كل جانب نطقها أبي بصوت مدوٍ كقنبلة مدمرة قائلًا لأمي أنت طالق، قالها وجمع حاجياته في حقيبة ورحل ... نعم هكذا ببساطة رحل.

كانت ضربات قلبي تتسارع وبصري زائغ وعقلي مشوش، سنوات عمري القليلة لم تسمح لي بإدراك عمق الأثر الذي ستخلفة هذه الكلمة التي خرجت كالرصاصة الطائشة لتصيب حياة جميع من في المنزل وتشوهها، حياتي وحياة أختي الصغيرة وحياة أمي وحتى حياة أبي.

كنت في العاشرة، مخاوفي كبيرة ووعيي قليل، هل حقاً سيغلق علينا باب الشقة وننام وأبي ليس موجودًا، لم نكن نستطيع أن ننعم بنوم هادئ إلا إذا كان أبي في المنزل، من سيوصلني إلى المدرسة كل يوم، من سيذهب لمقابلة المدرسين عندما يطلبون ولي أمري، من سينفق علينا، لم تكن مجرد تساؤلات بل هي موجة من الهلع تجتاحني.

سمعت أمي تتحمد لله أن خلصها من أبي، كانت تسبه وتلعنه بأقذع الألفاظ، لم أتصور أن أمي يمكنها أن تسب في يوم من الأيام، لكن هذا ما حدث، لم نسلم أنا وأختي التي تبلغ الثامنة من عمرها من غضب أمي، كانت غاضبة لدرجة أننا خشينا منها أيضاً، لقد بدل الغضب ملامحها، لم أر فيها صورة أمي التي عرفتها، رغم أنها كانت حادة الطباع أغلب الأوقات ولكني كنت أراها جميلة خاصة عندما تكون في حالة مزاجية جيدة.

لا أعرف سبب المشكلة التي إندلعت بينها وبين أبي كما تندلع النار من بين الركام فجأة؛ فتسري لتحرق كل ما يقابلها، كان مساءً عادياً، كان الحديث بينهما يجري في هدوء، صحيح أن الود بينهما كان بقدر ما يدفع عجلة الحياة، ولكن في جميع الأحوال كان هناك حدود للخلاف بينهما.

لم أعرف يوماً سبب خلافاتهم، كانت خلافات صامتة، يمتنعون عن تبادل الحديث لأيام قد تطول أو تقصر ثم يعودون للحديث حتى يحل الخصام التالي وأنا لا أعرف لم تخاصما ولم تصالحا.

إختفيت أنا و أختي من أمام أمي، إنزوينا في ركن حجرتي، جلست أختي إلى جواري ملتصقة بي و هي تسد أذنيها غير قادرة على سماع صوت أمي و هي تتحدث في الهاتف إلى خالتي، صراخها وسبابها ولعناتها التي صبتها على الجميع حتى أنا وأختي كانت ترعبنا سوياً، لقد تهدمت أركان البيت المتقلقل على رأسينا أنا وهي، أدركت أننا ننتظر أيام صعبة، لكني لم أتصور أن تكون على قدر الصعوبة التي عانينا منها والتي خبرتها ووعيتها بعد أن كبرت واستقللت بحياتي وأنا أعاني الكثير من الاضطراب النفسي، هذا الاضطراب الذي قلما يعترف به من مر بهذه التجربة القاسية، على كل حال من نجا من اضطراب نفسي بسبب انفصال الأب عن الأم قد يكون أفضل حالاً ممن عاش معهما وهما متنافران كارهان لبعضهما البعض، أو هكذا أسري  عن نفسي مما حل بي .

في الأيام التالية أصبح البيت مزدحماً، خالتي وزوجها، جدتي، خالي وزوجته، صديقات أمي اللاتي كنت أسمعهن وهن يشاركن أمي وصف أبي بأبشع الصفات.

فجأة آل أمرنا إلى خالي، أصبح هو الآمر الناهي في المنزل، مكنته أمي منا، لن أنس أنه صفعني في حضور أمي لأني اعترضت على المسبات التي يكيلانها لأبي، واكتملت الصورة بنعت أمي لي بلفظ خارج لأنني على حد قولها نسخة من أبي.

لم يكن ما حل بي حزناً ولا قهراً ولكنه تبدل كامل زرع في مشاعر أعجز عن وصفها، لم يكن الخوف الذي لازمني حتى الآن هو أسوءها، بل الشعور بفراغ القلب، نعم فراغ القلب، فلا حب في داخلي ولا كراهية ولا غضب ولا رضا ولا سعادة ولا بؤس، أصبحت جسداً فقط، جسداً بلا مشاعر، ربما كان الشعور الوحيد الذي حملته داخلي هو الشفقة على أختي.

بكيت كثيراً، لم أعرف لم أبكي، لم يكن هناك شئ يحرك دموعي، كان دمعي يتقاطر من مقلتي بلا سبب، كانت مدرستي الرقيقة الودودة في المدرسة تسألني في رفق عن سبب بكائي فأجاوبها صادقاً إنني لا أبكي حتى أخذتني من يدي إلى طبيب المدرسة خشية أن تكون عيني مصابة بعدوى لكن الطبيب أكد لها إنني بخير.

لقد امتدت علاقتي بمدرستي حتى يومنا هذا، سوف يكون لي معها أحاديث مطولة، نعم لقد خلقت مدرستي لتكون أماً، هكذا يخلق الله الناس ويطبع نفوسهم كي يؤدوا أدواراً في الحياة دون أن يدروا أنهم مكلفين من الله الذي زرع الرحمة في قلوبهم.

يتبع