«يوميات ناظر المحطة 1» قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

الكاتب محمد كمال سالم
الكاتب محمد كمال سالم

صقيع شديد هذا الصباح، الشبورة المائية تكسو الأفق، تحجب الرؤية وسحابات ثقال تتجمع في السماء تنذر بيوم شتوي صعب.

كل هذا وأكثر، لا يستطيع أن يثني الحاج (محمد عيسى) من الاستيقاظ باكرا ليصلي الفجر حاضرا، ثم يتناول دواء ارتفاع ضغط الدم مع كوب شاي بالحليب أعده بنفسه، يحدث ضجيجا ودوشة وهو يسعل ويستبدل ثيابه، بينما زوجته (سيدة) تغط في نومها هي وولدها الوحيد (حمدي) وابنتاها (فاطمة ووفاء)

ثم يقف في شرفة المنزل القابع في حي الدراسة يشعل سيجارة، ينتظر الأسطى (سيد الطويل) حتى يمر عليه بأتوبيس هيئة النقل العام النصر الأحمر ليصحبه إلى ميدان العباسية، حيث مقر عملهما، فالحاج محمد عيسى هو ناظر هذا الموقف العام وسيد الطويل سائق على خط 64 العباسية ميدان العتبة وقد اعتاد أن يمر على الحاج محمد عيسى ليصحبه معه في كل صباح.

الشارع مازال خاليا من المارة إلا من أيقظهم عملهم المبكر، يتسابقون في جدية تحت وطأة البرد ينبعث من أفواههم بخار الماء، وكأنهم مركبات بمحركات.

يصل محمد عيسى الميدان بين قرقعات مواتير الأتوبيسات «الزل»_ وهي تسخن استعدادا للانطلاق كل في وجهته، رائحة الجاز المختلطة ببخار الماء والصقيع تترك أثرا في النفس يبقى طويلا، يلقي التحية على السائقين والكمسارية المنتشرين في أرجاء الميدان وهو يتوجه إلي الكشك المخصص له، يقع بصره على شخص يفترش كرتونة حلويات مستعملة بجوار الكشك، يتمتم في ضجر:

_يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، كل صباح يا رب المستشفى الكئيبة ترمي علينا العيانين بتوعها، هي الناس دي ما بتشوفش شغلها ليه؟!

يرفع قدمه عنه يتخطاه، يدخل الكشك يجلس خلف مكتبه في مواجهة النافذة، يحضر (عم محروس) مساعده، يطلب منه محمد عيسى محاولة إبعاد المجنون الهارب بعيدا عن الكشك.

يبدأ عمله بفحص المنافيستو، جداول المواعيد، يأتيه أحد السائقين:

_العربية عطلانة يا ريس، أركنها واروح؟

_أسطى جلال، قسما عظما لو ما دورت المكنة وطلعت بالأتوبيس حالا لأكون مديلك خمس أيام خصم، وبطل حوارات ما فيش على خطك إلا عربيتين، اتق الله.

يعود محروس بعد أن أبعد المجنون الهارب، يضع كيسا بلاستيكيا على المكتب:

_ياللا يا ريس نفطر قبل ما أعمل الشاي.

_فول وطعمية برضو؟! قلتلك المطعم ده أكله مش كويس، عارف إن زبونه على الطاير مش راجعلوا  تاني.

_ما باليد حيلة يا حاج، أجيب منين يعني؟

_كلف خاطرك شوية واتمشى لشارع الجيش حتلاقي كذا مطعم محترمين.

_حاضر يا ريس، المهم واخد بالك من الأفندي بتاع كل يوم، كل يوم يقف ساعة وأكتر لحد ما السنيورة بتاعته ما تيجي وبعدين يركبو سوا خط الجيزة.

_يعني انت واخد بالك معاه قوي؟ ما الميدان مليان من عينته كتير.

_دا أفندي محترم، مش شايف هدومه شكلها إيه، ولا الشنطة الدوبلوماسي اللي شايلها،

التانيين شوية تلاميذ وطلبه بيلعبوا ويتسلوا.

_أهو زمن أغبر وخلاص ربنا يستر على ولايانا، والله أنا خايف على البنتين والواد الحيلة الخايب، لو جرالي حاجة لا حينفع أمه ولا أخواته البنات.

_ربنا يبارك في عمرك يا حاج، قول يا رب.

تقترب الساعة من السابعة صباحا، السماء كثيفة الغيوم وبدأ المطر يدمع رذاذا خفيفا، يزدحم الميدان رويدا رويدا بالطلبة والموظفين والبنات في زيهم المدرسي المألوف بالتنورة الكحلية والبلوزة أو القميص الأبيض، يدندن عم محروس أمام براد الشاي على البوتاجاز الصغير المحمول (الناس في كل جانب، تيرا تيرارم، أفواه ويا أرانب وبياكلوا في الحديد تيرارارم)

وإذا بصوت صراخ وزعيق شديد ( حاسب يا سطااااااا) مكابح عنيفة يخرج على أثرها مهرولا عم محروس يتبعه حضرة الناظر.    يتبع