«مشاعر».. قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس

الكاتب الهادي نصيرة
الكاتب الهادي نصيرة

كل الذين مروا بمكتب الدكتور عياض عند زيارتهم المصحة الخاصة، المنتصبة وسط المدينة، يعلمون أنه المختص، هناك، في التصوير بالأشعة، والمواظب، والجاد في عمله.

يعيش الدكتور وعائلته حياة دون هزات، ولا منغصات، لكن الرجل ظل، منذ أمد بعيد، سجين حلم غريب، يتكرر له كثيراً في منامه، إذ تتراءى له امرأة من عائلته، كانت قد توفيت منذ فترة طويلة جدا..

ذات حلم، أطلت كعادتها لتخبره: «سيأتي ذلك اليوم الذي تصادفك فيه فتاة رائعة الحسن، والجمال؛ سيبهرك سواد شعرها المنسدل على كتفيها، وستأسرك زرقة عينيها المشرقتين كأمواج البحر» ...

 

مضت فترة ليست بالقصيرة إلى أن جاء صباح ذلك اليوم، الذي تلقى فيه الدكتور عياض، زيارة فتاة ثلاثينية، تدعى درصاف، جاءت بإيعاز من طبيبها الخاص الذي طلب أن تؤخذ لها صور بالأشعة.. حينما وقعت عليها عيناه، توقف مذهولا، مسمرا في مكانه، ومرددا في نفسه: 

«إنها هي، تلك الفتاة الجميلة، ذات الشعر الأسود الداكن، والعينين الصافيتين.. هي نفسها التي كنت أراها في منامي.. أيعقل أن يصبح الحلم حقيقة؟»

لكن ما حدث بعد ذلك، لم يكن متوقع الحدوث.. لقد أثبتت صور الأشعة، والتحاليل المجراة على تلك الفتاة، باهرة الجمال، وجود ورم خبيث، قد أصاب جهازها الهضمي..

صعق الدكتور عياض أمام هول المفاجأة، وخيمت على وجهه أمارات التجهم، وآلمه حال الفتاة، وهو يهاتف طبيبها الخاص، للتحادث معه فيما يمكن القيام به، في شأن علاجها الذي لن يكون يسيرا..

شاءت الأقدار أن تفقد درصاف والديها، خلال مرحلة تعليمها الجامعي، وأن تتكفل أختها المتزوجة بمساعدة زوجها، بمصاريف ما تبقى من سنوات الدراسة، حتى بلوغ مرحلة التخرج.. وقدر لها، أيضا، أن تصاب بالمرض، وهي في حالة بطالة منذ بضع سنوات، كانت أيامها ثقيلة، ومضنية.. 

 بعد مدة من بداية مباشرة العلاج، مر الدكتور عياض على غرفتها ليسلّم عليها، فطالعه وجهها الشاحب، وعيناها المرهقتان اللتان حرمهما الأرق لذة النوم لعدة ليال متتالية..

تتابعت الأسابيع، وباتت الفتاة الشابة شاردة الذهن، تتقاذفها رياح القلق، والسهاد، لا تتوقف عن التفكير فيما آل إليه وضعها الصحي. لكن مع تقدم مراحل العلاج، بدأت سحابة اليأس تنقشع تدريجيا، تاركة مكانها لهبات الفرج، ونسمات الشفاء، التي أعادت للمريضة إشراقة نظراتها المتوهجة، وبهاء ملامحها المتلألئة..

 يدخل الدكتور عياض ملقيا التحية، وهو يبتسم:

« ها أنا ذا جئت للاطمئنان عليك. كيف تشعرين الآن؟.

_ لا بأس ..الحمد لله دكتور .. يسعدني جدا حضورك، وتبهجني كثيرا رؤيتك !

_ لا خوف عليك. ستكونين بخير، إن شاء الله»

في زيارة لاحقة، بدت درصاف ضاحكة، ومستبشرة، وفور استقبالها للدكتور عياض، قرأت له قصيدة شعرية، برعت في كتابتها، وفي رسم صورها، بشكل فني بديع، ما جعله منبهرا بما جادت به قريحتها، ومثنيا على موهبتها الأدبية.

تتوقف درصاف عن الكلام لتبادله نظرات الميل والإعجاب، ثم تضيف  :

_« هذه القصيدة هي هديتي لك دكتور عياض. لا أحد أجدر بها منك.

_ ما أروع ما قرأته على مسمعي يا درصاف ! لقد شدني جدا ثراء خيالك الخصيب.»

تصلها كلماته المثمنة، المفعمة بالانشراح والأمل، فيتهلل وجهها، في الوقت الذي يغادر فيه الدكتور الغرفة، مرتاحا لابتسامتها المغتبطة..

 في اليوم الذي أنهت فيه آخر حصص العلاج الكيميائي، بدا الطبيب المعالج متفائلا جدا، وأعلن، لحظة مغادرة درصاف المصحة، بحضور شقيقتها وزوجها:

«_ أعتقد أننا استطعنا إيقاف زحف هذا الداء، وأصبح بإمكاننا التغلب عليه، والتخلص منه نهائيا، شريطة توخي المريضة الحذر الذي أوصينا به، للتوقي مما عساه أن يطرأ من تعكرات أو انتكاسات صحية..

 في صباح اليوم الموالي، لفت نظر الدكتور عياض، عند دخوله المكتب، وجود ورقة مطوية، ملقاة من تحت الباب.. فتحها بلهفة ليقرأ ما بداخلها: 

« دكتور عياض في الوقت، الذي تقرأ فيه رسالتي المختصرة، ها أنا أمتطي قاربا ضاربا في عرض البحر، في اتجاه لامبادوزا..

أتمنى لك حياة ملؤها السعادة.. لن أنسى وقفتك إلى جانبي في أزمتي، وفي أصعب ظروفي.. لن أنسى ذلك أبدا.. درصاف.»

وضع الدكتور عياض يده على رأسه متحسرا،

ومتمتما :

« ما الذي فعلته يا درصاف؟! ...»