مقال نادر لأم كلثوم عن «أسطورة القصر والصحراء» فى ذكراه الـ 78

حسنين باشا على يمين أم كلثوم بحضور القصبجى وكامل الشناوى
حسنين باشا على يمين أم كلثوم بحضور القصبجى وكامل الشناوى

من كان وراء مصرع أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى ؟ 
كتابات كثيرة ألمحت إلى جلالة الملك فاروق الذى لم يكن راضياً عن زواج حسنين باشا من والدته الملكة «نازلى»، ولا يوجد دليل مادى على ذلك خاصة وأن حسنين باشا هو من جعل الملك فى آخر لحظة لا يوقع على وثيقة التنازل عن العرش التى قدمها له السفير البريطانى «لامبسون» فى أزمة 4 فبراير 1944 التى حاصرت فيها الدبابات الإنجليزية قصر عابدين !
وكتابات أخرى ألمحت إلى السفير البريطانى «لامبسون» الذى أراد الانتقام من حسنين باشا بزعم أنه السبب فى تعميق كراهية الملك للإنجليز، والسلطات البريطانية كانت تود الخلاص منه، وأصحاب نظرية المؤامرة يرون أن الحادث الذى أودى بحياة حسنين باشا يشابه حادث اصطدام سيارة الملك فاروق بسيارة نقل إنجليزى فى حادثة القصاصين، وهو نفس ما حدث مع سيارة حسنين باشا ظهر الثلاثاء 19 فبراير 1946على كوبرى قصر النيل عندما جاء من الناحية المضادة « لورى» بريطانى بسرعة جنونية وصدم سيارة حسنين باشا صدمة هائلة، كررها بصدمة أخرى عندما دار حول نفسه، وتصادف مرور سيارة أحمد عبد الغفار باشا وزير الزراعة الذى أسرع بنقل حسنين باشا بسيارته إلى مستشفى «الأنجلو أمريكان»، لكن روحه فاضت إلى بارئها فى الطريق إلى المستشفى، وخرجت الصحف المصرية والعالمية مجللة بالسواد وهى تنعى «أسطورة القصر والصحراء» رائد الملك فاروق ومعلمه الأول ورئيس ديوانه الملكى، الرجل الذى اكتشف واحتى «العوينات وأركينو» بالصحراء الغربية عام 1920 وتم منحه الميدالية الذهبية من الجمعية الجغرافية العالمية ومنحته الجمعية لقب «رحالة عظيم»، وكان بطلاً فى لعبة «الشيش» ورئيساً للنادى الأهلى ونادى السلاح الملكى، وقام بأكثر من محاولةٍ للطيران إلى أوروبا، ونجا من الموت بأعجوبة عندما سقطت طائرته ! 
شخصية شهيرة بحجم أحمد حسنين باشا كان لابد من الاهتمام بما وراء مصرعه الغامض من الصحافة المحلية والدولية، ولم يصل أحدُ لحل لغز ما حدث، والبعض اعتبر ما جرى هو مجرد حادث تصادم طبيعى لا يحمل شبهة الاغتيال المُتعمد، وفى الذكرى 78 لرحيله نقدم لقراء «كنوز» مقالاً نادراً لكوكب الشرق أم كلثوم التى كانت تعرفه وقريبة منه نشرته بمجلة «آخر ساعة» فى ذكرى رحيله الثانية، وتقول فيه : 
- «لن أتحدث عن أحمد حسنين السياسى، فتاريخ مصر والشرق العربى سيُنصف هذا الرجل الذى لعب بالسياسة، ولم تلعب السياسة به!.. ولن أتحدث عن أحمد حسنين الوطنى لأن مصر كلها رأت فيه الرجل الذى يعمل للوطن بغير ضجةٍ، ولن أتحدث عن أحمد حسنين العالم لأن استكشافاته، وكتبه، ومغامراته ستعيش بعده لتحدث الناس عن هذه الشخصية العجيبة التى مزجت العلم بالسياسة بالوطنية بالمغامرة بالرياضة فجعلت من كل هذا شيئاً واحداً، وأحدثكم عن أحمد حسنين الفنان الذى كان فناناً بكل معنى الكلمة، والفنان العبقرى لا يعمل للناس، وإنما يعمل للفن، وكان أحمد حسنين لا يستهويه التصفيق الرخيص، ولهذا كان بعض الناس لا يفهمون حركاته السياسية فى يوم حدوثها، مثلهم كمثل الذين لا يُطربون للأغنية إلا بعد أن يسمعوها مرتين، وبعض مناوراته السياسية كانت أشبه بلوحةٍ فنيةٍ، لتعرف قيمتها يجب أن تقترب منها، وعندئذٍ تقدر الجهد المبذول فيها، وتلمس الفن الرفيع بها، وكانت حياة أحمد حسنين قطعة فنية، كانت رواية وكان هو بطلها، وأذكر دائماً كلمة كان يرددها من أنه ذهب وهو فى إنجلترا الى منجم مشهور فقال له: «إنى أراك أشبه بممثل، وأراك دائماً فوق المسرح، وأشهدك تنتقل من أدوار صغيرة الى أدوار كبيرة حتى تصل الى الدور الأول، وفجأة والأنوار مسلطة عليك والجمهور يصفقُ لك، ويهتف باسمك ينسدل الستار فجأة، ويدهش الناس أن تختفى فى أدق وألذ موقفٍ فى الرواية ويخرج الناس من المسرح باكين آسفين لأن القصة الجميلة لم تطل ولم تنتهِ، ويختار كل واحدٍ منهم الختام الذى كان يحبه لك ! كذلك ستنتهى حياتك فجأة فى وقت لا يتوقع أحد أن تنتهى!». 
وتضيف سيدة الغناء العربى فى مقالها: «كان حسنين باشا يروى هذه القصة لأصدقائه وهو يقول: «أحس أن حياتى ستنتهى كما قال المنجم الهندى، وهذا من حظى، فإنه خير لى أن يضج المتفرجون من قصر دورى، من أن يضجوا لأنه طال أكثر من اللازم!»، وقد تحققت نبوءة المنجم الهندى كما تمنى أحمد حسنين ونزل الستار عليه فجأةٍ دون أن ينتظر تصفيق المصفقين وتحية المُعجبين! وفى حياته ما فى حياة الفنان من تناقضٍ، هذا المزيج العجيب من العلو والهبوط، بين الأكواخ والقصور، هذا الارتفاع الى حيث يعيش الملوك، وهذا النزول الى حيث يعيش أفقر الناس، أشبه شيء بنوتة موسيقية تحوى دوراً عجيباً جمع كل «المقامات»!، أحمد حسنين كان يستيقظ فى الصباح ويذهب للقصر، يجتمع بالملك، ويتحدث إلى الأمراء، ويشترك فى إدارة شئون الدولة العليا ثم يخرج من هناك إلى «تل زينهم» فى السيدة زينب، حيث محلة الرواد ليجلس مع الأطفال أبناء العمال الفقراء وهو يلاعبهم، ويتحدث إليهم، ويبادلهم النكتة كأنهم أولاده، وكأن الجو الفقير جوه، وطريقة الحياة العمالية طريقته وبيئته، وكأنه وُلد وعاش طول حياته فى حى من أحياء العمال، وكان يعود من هذه الرحلات وكأنه عائد من موكب ملكى، كان كل جو من هذه الأجواء له فتنته، وله تأثير فى روحه ونفسيته، وكان يلعب دوره السياسى، ثم يخرج من هناك الى نادى السلاح ليلعب السيف، ولست أعرف هل كان يستعمل السياسة فى المبارزة، أو كان يجيد فنون المبارزة فى السياسة، ولكنى أعرف أنه كان بطلاً فى اللعبتين، يضرب ضربة مفاجئة، يضرب خصمه ليصافحه بعد ذلك، ما رأيته يوماً يضرب رجلاً على الأرض، ولا يسخر من مضروبٍ أو يهزأ من مهزومٍ، وكان رجلاً صوفياً يعرف الله كثيراً وقد استطاع إيمانه أن يجعل منه فيلسوفاً، العاصفة لا تخيفه، والسماء المشرقة لا تخدعه، والدنيا المقبلة لا تغره، والدنيا الغاربة لا تُرهبه، إنه على الحالين يذكر الله، وكم كان غريباً أن هذا الرجل الصوفى كان يرأس جماعة التمثيل والسينما، ويشترك فى حفلاتها، وينقد رواياتها، وكان يتدخل فى بعض الأحيان ليعلمَ بعض الممثلين والممثلات كيف يقومون بأدوارهم، وكان يشترك مع نجيب الريحانى فى قراءة رواياته قبل عرضها على الجمهور! وهو فوق هذا راوية للشعر وذواقة للغناء، يعرف اللحن المضبوط، وتلتقط أذنه النغمة العرجاء، إذا جلس فى مجلس غناء شعرتُ وهو ينظر إلى المطرب كأنه فرد من أفراد الفرقة الموسيقية، يلاحظ كل آلة، أشبه برئيس فرقة موسيقية يديرها دون أن يعزف آلة من آلاتها!
وتختتم كوكب الشرق مقالها قائلة: «إننى لا أزال أذكره كلما غنيت قصيدة «سلو قلبى».. وأبكى فيه الفنان الذى عالج كل شيءٍ فى حياته برقة الشاعر وخيال المصور، وبراعة الموسيقى، وسحر المطرب، واختفى فجأة كلحنٍ لم يتم.. ومع ذلك بدا أجمل من لحن كامل ! شخصية عجيبة لا يوجد لها مثيل فى الحياة الحاضرة أشبه بالشخصيات الروائية الخرافية التى عاشت فى قصص ألف ليلة وليلة، كان فناناً من الطراز الأول، رحمه الله.
أم كلثوم
«آخر ساعة» - مايو 1948