«الانهيار».. قصة قصيرة للكاتب سلامة رشوان

سلامة رشوان
سلامة رشوان

أفلت شعاعُ الشمس من النافذة بعدما أزيح الستار عنها ، اقتربت منى بابتسامة صنعها التعود فسألتني :

- كيف حالك اليوم ؟

حركت لسانى الملتصق بسقف حلقى بالكاد قائلاً :الحمد لله

- ‏يااااااه أخيراً سمعنا صوتك، لقد كنت تشير بإصبعك وعينيك فى الأيام السابقة

 - ‏الأيام السابقة؟ كم يوما مضى على وجودى هنا؟ وماذا حدث؟

 - ‏ثلاثة أشهر مضت على انتشالك من تحت الأنقاض ونحن نتعامل معك وكأنك أبكم

- ‏ وزوجتى أين هى ؟

- ‏هى بخير، يقولون أنهم وجدوك محتضنها وكأنك تحميها من أثار ما حل بعمارتكم، هل كانت قديمة لتتهاوى هكذا فيطولها الانهيار دون سابق إنذار؟

 

- ‏لا .. لقد اشترينا شقتنا والعمارة مازالت تحت الإنشاء منذ عشر سنوات وكنت أرسل ل (غدير) فى حسابها الخاص الأقساط الشهرية وهى من تقوم بسداد .......( إرهاق مصاحب لصداع منعه من استكمال الحكى)

- ‏أرجوك لا ترهق نفسك بالحديث، إسترح اليوم وسآتيك غدا لتكمل لى، فأنا مغرمة بسماع قصص المرضى، ياليتنى أدونها فأتربح من طبعها ونشرها.

خرجت الممرضة وأغلقت باب الغرفة تاركة وراءها الصمت، فلم يهمنى من كلامها ولم يسكن آلامى سوى كلمة واحدة، ألا وهى: ( هى بخير ) ، الحمد لله على سلامتها ، فلا حياة لى بدونها، إنى أعشقها منذ أن كنا سويا فى الجامعة، فهى الملجأ الدافىء الذى آوى إليه بعد شقاء يوم طويل يقسم ظهرى ما بين روتينية القطاع العام بالنهار، ومذلة القطاع الخاص بالمساء، عشر سنوات مضت على زواجنا بعد أربع سنوات جامعية كانت بالنسبة لى هى الحافز الأكبر لأنهى سنوات دراستى واتقدم لخطبتها، لقد كنت أفترس الكتب افتراساّ، مُلخصا إياها فى وريقات قليلة كى تسهل على (غدير) المذاكرة، وتمكنها من اجتياز الامتحانات، فكانت دائمة الاتصال بى متعللة بسؤالها عن الملخص، لا زلت أذكر كل مكالمة كانت بيننا فى السنة الرابعة والتى لم أستطع مصارحتها بحقيقة مشاعرى والتى كانت واضحة وضوح الشمس، ولكنى أعتقد أن اهتمامها وانشغالها بالدراسة منعها أن تشعرنى بتقبله, يااااااه لخجل العذارى، لم تكن للتليفونات المحمولة وجودا فى تسعينيات القرن العشرين إلا فى أواخره ومع الأثرياء فقط .

دق الهاتف الأرضى فى التاسعة صباح يوم الجمعة فرفعت السماعة وأنا مستلقى على السرير دون ان أفتح عينى قائلا بصوت يهيمن عليه الخمول :

- ألو

- ‏ألو ... عذراً على الاتصال مبكرا فى يوم الأجازة

‏اعتدلت كالكاتب المصرى المتربع على عرش الورقة فئة المائتين جنيها مبتهجاّ، فجنبات روحى تعرف صدى ذلك الصوت جيدا فبادرتها قائلاً :

‏- لا عذر لمن مَلك

‏ضحكت ضحكة صغيرة وقالت :

‏- هل انتهيت من تلخيص مادة العَروض ؟

‏إنها مادة غريبة الشكل والتكوين تحتاج إلى مطرب لا إلى دارس لقد فَرهَدَت روحى حقا

‏قلت بعد أن أضحكتنى طريقتها قائلاً :

‏- معكِ حق فمبتكر ذلك العلم يُدعى الفراهيدى، لا تبالى ستكون سائغة بين يديكِ فى خلال يومين، وسأنال شرف شرحها لكِ

‏- وأصدقائى أيضا فى حاجة لمن يسهلها عليهم

‏- من أجل عين تكرم ألف عين

‏- متبقى على الامتحان أقل من ثلاثة أسابيع هل الوقت كافٍ لأن تلخص باقى المواد

‏- سأحاول بكل جهدى حتى لا تشقين

‏- وأصدقائى لا تنساهم

‏- من جاءنى من طرفكم فله قدر عندى مثل قدرك

- ‏كنت من قبل ألخص المادة فى أكثر من ثلاثة أسابيع، وبفضل وجودك أنهيها فى أيام معدودة

‏- ما أصعب كلية دار العلوم

‏- بصحبتك تهون الصعاب وتحلو الأيام

‏هل تعتقد أنه سيتاح لنا العمل كمعلمين بعد أن ننهى دراستنا

‏- الأهم هو التأهيل الجيد

‏- يقول سامح عنك أنك نابغة

‏- مَن سامح ؟

‏- سامح جلال زميلنا صاحب السيارة المرسيدس البيضاء المكشوفة ، هو واحد من خمسة يمتلك الهاتف المحمول فى الكلية

‏- نعم أعرفه

‏- والده صاحب أكبر سلسلة مدارس فى مصر ووعدنى بأنه سيوفر لى فرصة عمل بمرتب كبير فى إحدى مدارس والده

‏- أفلح إن صدق

‏- لا أظنه يكذب على ، فهو يعاملنى معاملة خاصة

‏- خاصة ... كيف ؟

‏- يسأل عنى باستمرار، يهدينى الذهب دون مقابل، وأكثر من مرة يوصلنى إلى المنزل بسيارته

‏- لعله يُكن فى قلبه شيئا لك

‏- لعل ...

‏- الحب الكامن فى القلب يظهر فى العينين

‏- وهل أترك متعة صحبته وأنظر لعينيه؟

‏- على العموم، ابحثى عن القلب الذى يحتويكى لا عن المحفظة التى تغريكى

‏- توعدنى؟

‏أشعلتنى الكلمة للحظة قبل أن تتبعها:

‏بأن تنتهى من تلخيص المادة قبل يومين

‏قلت بقلب متحسر:

‏أعدك

‏ضاق صدرى وقتها لما سمعت ولكن المُحب دائما لا يبالى بما يسمع فالحب وحده قادر على صم الآذان وتقديم المبررات وبناء الجدر التى تحول دون معرفة الحقيقة

‏مر أسبوع كنت وقتها داخل الحرم الجامعى واشتقت لفنجان قهوة تنثمل به روحى التى ساقتنى إلى تلك المقاعد العريضة أمام كافتيريا الجامعة المشهورة بقهوتها المحوجة فما إن وقع بصرى على المقاعد فإذا بها وحيدة وزادها الشتاء انكماشا فاقتربت أكثر فوجدتها بوجه ذابل وعيون دامعة ووجنات حمراء قد زادت من جمالها، فجلست جوارها وبلمسة رقيقة من يدى وجهت عينيها صوب عينى قائلاّ :

‏- ماذا بكِ ؟

تنفست ‏بالكاد وبعد أن أخذت شهيقا وزفيرا مرتين سريعتين تحاول بهما أن تلتقط الهواء الكافى الذى يمكنها من الكلام قالت:

- سوف أموت

- ‏أطال الله فى عمرك ليكون متعة وحياة لغيرك

- ‏كيف ؟ وقد هجرنى من أودعت ثقتى فيه

- ‏مَن ؟ سامح ؟

- ‏نعم ... سافر إلى رومانيا

- ‏سوف يعود بالتأكيد

- ‏متى ؟ لقد علمت من إحدى المقربات له أنه سوف يُكمل دراسته هناك ولن يعود قبل سنة

- ‏انتظرى حتى يعود وسيهون عليكِ اتصاله بكِ تليفونيا

- ‏أنت لن تستطيع أن تعى كارثية الموقف

- ‏أود أن أفهم اكثر

- ‏لا أستطيع أن أتحدث بأكثر مما قلت

بدأت الظنون تحتل أفكارى وبدأت الحقيقة تنجلى أمام عينى بعد اجتنبت النظر إلى

- لا داعى للقلق

- ‏كيف لا أقلق

- ‏إن لم تقتلنى كارثة ما وضعه بأحشائى وهرب ستقتلنى حرقة أخوتى لا محالة

- ‏هناك حل

- ‏أى حل، هل ستأتى به مقيداٌ؟

- ‏لا ... سأقيدك أنا بقيد الزواج

- ‏ماذا؟

- ‏هل تقبلين مثلى زوجا لكِ

- ‏زوجاّ ؟

- ‏ليس هناك وقت للتفكير، سنتزوج

- ‏أخاف المعايرة فيما بعد

- ‏لست انا وليست من اخلاقى

- ‏لن أنس لك هذا المعروف ماحييت

 

وفى خلال أيام تزوجنا وبعد بضعة شهور جاءت إلى الدنيا مَلك هى حقا ملاكا لم يكن له ذنباً فى ما فعله المذنبون، وجاءتنى إعارة لإحدى الدول العربية سافرت وأكرمنى الله بها، لعله رزق ملك ساقه الله إلىَ، لقد كانت فى المدرسة وقت انهيار العقار، الحمد لله على سلامتهما، فداكما عمرى .

سمعت صوتا يـُلقى على السلام فقلت:

- من ؟

- ‏حسن عبد الستار المحامى

- ‏أهلا بك

- ‏حمدا لله على سلامتك

- ‏أسلمك الله من شر

- ‏أعرف أن حالتك الصحية لا تمكنك من التحدث كثيرا ولكنى أتيتك فور علمى بعودة النطق لك، لأسلم لك حكما قضائيا

- ‏بماذا ؟

- حكم بالخُلع صدر لصالح السيدة  غدير قابيل

- ‏أخرسنى كلامه إلا من كلمة واحدة فقلت:

- ‏أين هى ؟

- ‏سافرت بصحبة ابنتها إلى رومانيا.