«القاهرية» مقامة للكاتب حامد أبو المجد

الكاتب حامد أبو المجد
الكاتب حامد أبو المجد

 

قال صابر مقهور المصري: نـزلت بأرض مصر المحروسة بعد ثورتها المــدروسة، فإذا بتطورات جسام، وراءها أيد كالحسام، تقبض على كل شيء بزمام ، فما تترك كبيرة ولا صغيرة ، ولا فـتيلة ولا قطـميرة ، فجلست على مقهى شعــبية بحي الجمالية ، مربي نجيب محفوظ ، وللأماكن في الناس حظوظ ، فطلبت شايـا وحمية ، وتنازعت مسامعي تلاوة وأغنية ؛ فأتاني شاب يبدوعليه التعليم واضعا ما طلبت وطار كالظليم ، يسرع الخطا بين المقاعد ، و الزبائن بين قائم وقاعـد ،عليهم من المعيشة رسـوم ، ترشح وجوهم بالوجوم  فالصراخ يسود محادثتهم ، وترتفع الأيادي في معاملاتهم ، كأنهم فرائس وآساد ، وذوي نعم وحساد

وهذا رجل لم يبلغ الأربعين ، ينظر لهاتفه فيستغفر ويسب الدين،  فيفتحه ويصيح فيمن يحدثه  قائلا: إنها امرأة مــؤذية ، متسلطة رذيـة ، تعتقـد أنها أفـضل إنسية ، وأنها بزواجـها مني قد أنعمت عليَّ ، فلا تقــدر للزوج قدرا ، ولا ترفع له بين الناس ذكرا ، إنه قراري الأخير ، ولست بالأول ولا الأخير ، ثم سكت يستمع لمحدثه فترة ، وهو يحتسي قهوة ، ثم رد قائلا : تذهب للمحكمة لتنال حقوقها ، وسأقدم شهادة فقر ليزداد فقرهــا ، وتعرف قدرها ، فالمرآة لا تدرك قيمة زوجها إلا إذا مات أو ذهب لغيرها.

وأخرى ثلاثينية يختلط دمعها بكلامها ، تتحدث لمحامية بجوارها ، قائلة : تركت له أولادي وسافرت للعمل بدولة خليجية ، وأرسلت له كل الماهية ، وكان ودودا لطيف الأشواق  ، ينصحتى بالبقاء بعدما اشترى شقة في حـي راق، حتى يتسنى لنا أن نحيا وسط الأغنياء ، وينعـم أولادنا بين الرفـاق ، فيحسون بالأمان ولا يعـودون للحــرمان ، فـعـملت عملا إضافــيا لاختصر السنوات ، فالغربة موات ، لكن بعدما فشت كورونا وتقشفت الحكومات فسرحونا ، فحملت الهدايا وأتيت ، ومنيت النفس بمــا تمنيت ، فدقـقت الجــرس وانتظــرت ، ففتحــت لي الباب صبية ، ملامحها ملامح أمي صفية ، فقلت لها : أما تعرفيني ؟ فزوت حاجبيها وقالت : ذكريني ، فنزلت دمعتي وأدركت حينها طول غربتي ، ونادت على أم غيري تستغيث بها مني ، وطردني من أفرغت له أحشائي ، ولم يقـدر شقائي وعنائي ، ومحا رسمي من ذاكــرة أبنائي ، فطلبت المحامية منها العقود ، والقسيمة والشهود ، لترفع لها قضية ؛ لاسترداد اموالها وحقوقها الشرعية .

وملأ يجلسون بجانب الباب ، عليهم من الغـضب ثياب ، يملأون أفواههم بالدخان ، وينفخـونه كالسيارات في المكان ، وقد تعالت أصواتهم بالوعيد ، لمن كانت السبب في جلطة عبد الشهيد ، فقد أعــفــته من رئاسة  الكنترول ، الذي يبدو انه لهم بــئر بترول ، وهم لا يعــطون دروس خصوصية ولا تكفيهم الماهية ، فقــد ربـط الوزير أساس المرتبات من سبع سنوات ، وجعــل مصاريف الكتب  بالبريد والإدارات ، فلا توجد هبات ولا نفحات ، فقال احدهم : لا توقع نادية في دفتر التوقيعـات ، وتتصل بالمديرالعـــام لتخبره بما هو أت ، قامت المديرة بحـرماني من من التوقيع ، ويشهد معها السيد وعبد البديع ، لنشكك في قدرتها الإدارية ، فتضطـر للتوقيع لها فتكتب شكوى للنيابة الإدارية ؛ بأنها توقع لمحاسيبها في دفاتر مالية ، ونبدو أبرياء في القضية . أما أسامة فيبيع خــوارج المدرسة من حديد وأخشاب ، ويدعي أن ذلك أوامر المديرة عــتاب ونرفع الأمر للمسئولين والنواب ، فيفتضح بين المدراء أمرها ويُصدَر أمرا بنقلها.

 

أما أرباب الأحزاب والساسة فحديثهم في الغــلاء والسياسة ، وكلهم يراءي الحكومة الفاشية  ، التي أعياها شؤم الـــرعــية ، التي تنجــب دون حساب ، ولا تتــبع الأسباب ، فـفــشلت الحكومات المتوالية في خطــط التنمية ، ولن تنفع حـملات تنظــيم الأسرة الإعلامــية  ولا التعليم ولا التربية ، فالغـلاء صناعة الشعــوب لجلد الحكومات وإهــدارالطاقات والثروات ، وها هو يــردعهم عن الإنجــاب ، والحمد لله قــد عـزف عن الزواج الشباب ، فلما حدث ذلك خافت الحكومة على الشباب ، فأفتى الفقهاء السياسيون في الإعلام ، بصحة كل انواع الزواج التي حرمها الإسلام ، ومن لم يجـد امرأة تكفيـه حاجته فله في المثلييين بغيته ورغبته ؛ فأنتجوا الأفلام التي تروج للأفكارالهدامة ، التى تسهم بحل الأزمات الزأَّمة ، فالحكومة معذورة فيما تفعل ، وعلى الشعب أن يصبر ويتجمل ، كما أمر الله في كتابه المنزل ، على النبي العظيم المرسل ، صلى الله عليه وتفضل.              

فلما سمع شيخ - كسا وجهه لحية مربعة وبــزة مرقعة  – هذه الحوارات ، وتلك الآهات والإهانات ، قام متنحنحا بصوت عال ، كأنه يريد أن يلتفت الحاضرون لما سيقال : أيها الناس اسمعـوا مقالي واصغـــوا لكلامي ، فأنا ربيب النعـم ، الشاطــر الموصلي ، من سلالة مظفــر الدين أبو سعيد التركماني ، تملَّك أجدادي الضياع ، وكان لهم حاشية وأتباع ، ورافقوا أسد الدين شيركوه في الإقامة والرحيل ، والتحقوا بخدمة صلاح الدين في حـرّان والرّها وأربيل ، فمالت القـوالب بمرور السنين ، وتجمعت خيراتها بيد البنين ، الذين اتبعوااللهو والمعازف وأهملوا العلوم والمعارف ، وصاحبوا ذؤبان الأفاق ، ومدعي التحضــر والأخلاق ، فمالت الرؤس على الصدور، وتبدل صلاح منبتهم في خَلفِهم بور ، فتبخرت الأموال وساد الجهل والضلال ، وما عاد فيهم ولا بينهم عالم ولا وال ، بعـدما تحكمت الأهواء فـيهم ، وأرسى الشياطين رحالها بأراضيهم ، فأنشأوا فيها الحانـات المليـئة بالجـواري والمغـنيات ، ليسلبوا خير الأمم دينها ومالها، ومصدرعزها ومجدها ، وأشعلواالفتن بين زعمائها وشعوبها، وأطلقوا أبواق حروبها فهجرت الطيور دوحها، وبكت العروبة جروحها، بعـدما هوى شامها وعراقها، ولم يعد شهداء بيافا وحيفا إلا أطفالها ، فأقصاها هجره كرها المصلون ، ومقدسات الحجاز يحفها الماجنون فما عساكم أنتم فاعلون ؟ والكل بما فعل مرهون ، كما قالت الآية الكريمة " كل نفس بما كسبت رهينة ".

فهل تنكرون أنكم قطعتم أرحامكم ، ورأى أبناؤكم أسوأ أخلاقكم ، وتنازعتم أمامهم ثوب المودة والرحمة ، ولم تراعوا فيهم إلّاَ ولا ذمة ، ولم يكن فيكم رشيد ، ينظر فيا يفعــل بزوجه لبعيد ، فيصونــا عرضهما - غدا- من أقاويل أبنائهما عنهما، ولا تكون سيرتهما سمر أقرانهما وأعدائهما ، فما يُزرَع اليوم غدا محصود ، وما تبذله من بر أبنائكم عليكم مردود ، فهلا تركتم الكبر والعـناد وتذكرتم ما كان بينكما من ود وإسعاد ، فما أردى من سبقكم من الممالك إلا الخلاف والجهالة ، وما نشر الأدواء ببيوتكم إلا الأنانية والنذالة.

واعلموا أن الراعي خارج من رحم الرعية ، ولن يجدي دعاء ولا أمنية ، وإنما ينفعكم إصلاح ذات بينكم ، واتباع أوامر ونواه ربكم ، فالأمر أوله بأيديكم وأخره بيد ربكم ، " إن تنــصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكــم " واقرءوا إن شئتم سيــر أصحاب نبيــكم  ، فقــد سألوا الخليفة عثمان ، لم لا تسير فــينا سيرة الشيخان ، فقال لهم : كونــوا كــرعية أبي بكر وعمر أكن لكم كأبي بكر وعمر .

ولا تنسوا الـزكاة والصدقات ، فإنها زاد الفقــراء في الملمات ، وتطــفئ غضـب رب الأرض والسموات ، والبعـض من الناس ينفـق الألاف على الـقات والمخدرات ، ويبخـل على ذوي الحاجات ، ينفـقون المئات لشراء توالـف النفوس ، ولا يبـذلون إلا جنيه لمن عليه الحوادث تدوس ، فأيهم الباقي معكم في القبور ، وأيهم النافع لكم حين الدوائر عليكم تدور، أين العقول والأفهام ؟، وأين قارون وكنوزه العظام ؟ لم ينجيه ما كنز ، ولم ينقذه عقلا به اعتز ، فالعاقـل من عقل ما به الله أمر ، وبحث عمن يستحق البر والنظر ، ليربح ما ادخر ويُستثمر ، وبين أيديكم من أثقلته الديون ، وتبدل حاله إلى ما تـرون ، فأولادي بالقـوت يحلمون ، وراعيهم بأحكام القـضاء مرهون ، فرق الرواد لحاله ، بعدما أعجبوا بمقاله ، وقام كل منهم يجود عليه بما تيســر له ، وهو ينشد ليحث من تكاسل بالنهوض إليه :

أيا ممســكا أنفــــق جـــزيلاً   فقد سعيت في الحياة طــويلا

فكل ما جمعــــــته مصطبرا  وافــــرا مــــرات ومــرة قليلا

عما قــليل يغـدو لمن تقاطع ولا يـذكرونـك بكــرة وأصيــلا

فهــم الـوارثون لما كنــزت  وعليه ستحاسب حسابا ثقيلا

هلك من يــــــروح ويغدو ويجعـــــل هـــمه ثــــراءا جليلا

أأجـــود بمال تعــبت فـيه دهرا وأهــبه متـمارضــا وعــويلا

أراه سائلا لكل مـــــــار متعب  لا أراه الا متبجــــحا مملولا

فيا عاقلا اعمل لغـــــــد فــــــلا أراك إلا سخيا بـــــذولا

محبوبا حيث سرت او أقمت تبدومحسنا عند الله نبيلا

جعل الله المال والبنون وسيلة لكل من أراد ذكرا جميلا

فملأ جيوبه ما اجتمع إليه من الرواد ، وهويدعو لهم بالبركة في الأولاد والزاد ، وألا يرد الله لهم دعاء ، ولا يفتنهم بالسلب بعــد العطاء ، ويجعل لهم من صـدقاتهم درءا لكل داء ، ويرد عنهم سوء القضاء ، لا يشمت بهم الأعداء.

فأهمني حاله ، ورغبت في مساعدته وانتشاله ، فالهوان على الكريم ينرفزه ! ولا بد له من رفيق ليجاوزه ؟ فأدركته وهو يعبر الطريق ، فناديته : يا ذا الأصل العريق والمنطق الرشيق  فالتفت إليَّ قائلا : ماذا تريد أيها ا.  لمقهور ؟ وقد استعبدك النسور ، فسكنوا القباب والقـصور، وتركوك للأكواخ والقبور ، فلما أدركوا فيك بقية قـوة ، أحكموا عليك أيديهم بقسوة ، وأهين كل قدوة ، وأماتوا عندك النخوة ، فلا على عرضك تغير ، ولا بدين تستنير ، ثم أنشد قائلا :

 

إذا كنت عصفـــــورا مغردا  فلا يخــدعنك هسيس النسور

فما همهمت احتراما ولكن  لتخــرج ما لديك من شعـــــور

فما عساك وإن أتيــت من كل أرض بألــف عـــصفـــــور

فلك حبيبات تسد جـــوعك  ولا ترقب زاد نســرأو صقور

وغض الطرف عن غيرك  فللجوارح رزق وللطير كسور

فهل سمعت عن قرد يوما منع الطـــعام عن أســـد جسور؟

 

ثم امتزج بالزحام ، وترك لي أثر الكلام ، فتعجبت من فراسته ، وقد أخذتني بلاغته ، وتمنيت أن ألقاه ، وأعرف  من كلامه فحواه.